طِشّاري (بكسر الطاء وتشديد الشين) : هي مفردة تستخدم في العراق لتسمية ووصف طلقة الصيد التي تتوزع في عدة اتجاهات , وإذا وصفت جماعة نفسها بهذه الكلمة فهذا يعني بأنها (( مُبعثرة )) , ويرمز بها العراقيون للتشتت والضياع , وقد حاولت الروائية (( إنعام كجه جي )) من خلال رواية (( طِشّاري )) , أن تتناول كارثة الشتات العراقي , في العقود الأخيرة , من خلال سيرة طبيبة عملت في أرياف جنوب العراق في خمسينيات القرن العشرين وأبنائها الثلاثة الموزعين في ثلاث قارات , لاسيما ابنتها البكر التي أصبحت طبيبة أيضًا , وتعمل في المناطق النائية من كندا , وبمواجهة تمزق شمل العائلة يبتكر الحفيد إسكندر مقبرة إلكترونية , جعل لها موقعًا خاصًا على شبكة الإنترنت , دفن فيها الموتى من العائلة حيث يتعذر جمعهم في مقبرة على الأرض , وخصص لكل فرد من أفراد السلالة المتفرقة في قارات العالم قبرًا خاصًا به.
تلقي إنعام كجه جي الضوء على قضية الطائفية في العراق , من خلال حكاية (( وردية )) , وصولًا للحرب والتناثر أو التشتت في بلدان الله , من هنا عنوان الرواية , طشاري , لم يعرف رأسُ ورديَّة العباءةَ سوى مرّة واحدة , يوم ذهبَت مع كمالة وخطيبها إلى النجف لشراء سجّادة عجميّة , عباءة من قماش ثقيل أملس ينزلقُ وينزل على كتفيها ويسحل فتتعثّر به , ترتبكُ ولا تعرف كيف تواصل سيرها في السوق , لقد رأت والدتها ترتدي العباءة السوداء عندما كانوا في الموصل , وكذلك كمالة وجولي , أما هي فكانت طفلة , ولما انتقلت العائلة إلى بغداد ذهبَت الى المدرسة الابتدائية بضفيرتين سافرتين , مثل رفيقاتها , خابر سُليمان صديقه آمر موقع الديوانية وأخبره بأن شقيقته قد تعيّنت طبيبة عندهم , سأله : هل عليها أن ترتدي العباءة؟ لو كانت لي ابنة تخرَّجت دكتورة فلن أُغطّيَها بالعباءة.
كمطر هادئ ينزّ على أرض عطشى , تهطل ذكريات الدكتورة (( وردية )) على صفحات الرواية , ذكريات تسحبها المؤلفة من ذاكرة بطلتها وتباريح روحها , لتنقشها بأحرف من وجع وشجن في سردها , وتمزجها بالكثير من (( ذهب )) التراث العراقي : الأمثال الشعبية , الأغاني , الأسماء , والمفردات العامية , فالدكتورة (( وردية )) طبيبة عراقية , مسقط رأسها بغداد , وهي مسقط قلبها أيضاً , لكن الحرب وتغيُّر ظروف البلاد تجبرها على الرحيل إلى باريس , بعد أن توزعت عائلتها في كل أقاصي الأرض , (( كأن جزاراً تناول ساطوره وحكم على أشلائها أن تتفرق في كل تلك الأماكن , رمى الكبد إلى الشمال الأميركي وطوّح بالرئتين صوب الكاريبي وترك الشرايين طافية فوق مياه الخليج , أما القلب , فقد أخذ الجزار سكينه الرفيعة الحادة وحزّ بها القلب رافعاً إياه , باحتراس , من متكئه بين دجلة والفرات ودحرجه تحت برج إيفل )) , في باريس , تستقبلها إبنة أخيها, لتصبح العجوز الثمانينية صديقة ابنها (( إسكندر)) ,تحكي له عن العراق , وعن أمنيتها في أن تعود لتدفن في ترابه بعد موتها , يقوم الفتى بإنشاء مقبرة إلكترونية على (( كومبيوتره )) يجمع فيها شتات الأقارب المتوزعين في كل أنحاء العالم , يضع قبوراً للأحياء إلى جوار قبور الأموات , محققاً بذلك حلماً يصعب تحقيقه على أرض الواقع : (( وضعت السماعتين فسمعت موسيقى ناعمة تتناغم مع حركة فأرة الكومبيوتر التي يقبض عليها إسكندر , عرض عليها قبوراً تفنن في تشييدها ,وأقام عليها شواهد ملونة مثل أقواس قزح .
تتناول الكاتبة في روايتها تاريخ العراق , منذ الخمسينيات حتى اليوم , بكل مآسيه وأحداثه ومنعطفاته , من خلال ذكريات (( وردية )) الفتاة المسيحية , التي درست الطب في بغداد ثم انتقلت لتعمل في (( الديوانية )) وأحبت الناس هناك وأحبوها , حين لم تكن المذاهب ولا الطوائف لتفرّق بين الناس آنذاك , تتزوج من طبيب يعمل معها في المشفى وتنجب أطفالها , الذين يكبرون ويرحل كلّ منهم إلى وجهة مختلفة , (( ياسمين )) تشحن كطرد بريدي إلى دبي لتتزوج بشخص بالكاد تعرفه , لأنها هددت بالخطف من قبل جماعة تكفيرية , و(( برّاق )) يعيش متنقلاً من بلد إلى بلد بحسب عقد العمل الذي يحصل عليه , أما (( هندة )) التي تحتل قصتها جزءاً كبيراً من السرد , فرحلت مع زوجها بعد ويلات حرب 1991, وعانوا الأمرّين للظفر بتأشيرة للسفر إلى كندا , وبعد وصولهم إلى هناك , بدأت مصاعب من نوع آخر, إذ توجب عليها معادلة شهادتها كي تحصل على عمل , لن تجده إلا في منطقة نائية وبعيدة عن أسرتها.
تنقل الإبنة معاناتها إلى أمها من خلال رسائل ترسلها إليها , لتصبح الرسائل جزءاً من تنوّع الأساليب السردية التي استخدمتها (( إنعام كجه جي)) في روايتها , إضافة إلى الفصول المروية على لسان الراوي العالم بكل شيء , والفصول الأخرى المكتوبة على لسان إبنة أخت (( وردية )) , لا يوجد خط زمني صاعد أو هابط للأحداث , فتارة تأخذنا إلى الماضي وتارة تعود بنا إلى الوقت الحاضر , وكأنها أرادت أن يكون شكل روايتها مكتوباً بأسلوب (( طشاري )) الذي أثبتته كعنوان للرواية , ليرمز إلى الشتات العراقي في كل بقاع الأرض , وليكون عنواناً أيضاً لديوان شعري تكتبه إبنة الأخ , يسألها إبنها (( إسكندر)) عن معنى الإسم , تجيبه (( بالعربي الفصيح : تفرّقوا أيدي سبأ )) : ( وهوتعبير بحكم التركيب والمجاز كناية عن التفرّق والانتشار في كل وجه كما تبدّد سبأ وقومه , وأصله من قصة سبأ والسيل العرم الذي خَرّب اليمن وفَرَّق أهلها , ثم جرى مجرى المثل وشاع استعماله وصار تعبيرا اصطلاحيّا لخروجه عن معناه الأصلي إلى هذا المعنى البلاغي فصار له تأثير في النفس ) , وتوضّح أكثر (( تطشّروا مثل طلقة البندقية التي تتوزع في كل الاتجاهات , إنهم أهلي الذين تفرّقوا في بلاد العالم مثل الطلق الطشّاري)) , تنتهي الرواية , فيظلّ القارئ مأسوراً ومسكوناً بالحنين , الحنين الجامح إلى العراق بكل ما فيه , حتى لو لم يكن قد زاره من قبل.
اقتباسات من كتاب طشاري : نتجادل ونتشبث بالآراء ونفلسف الأوضاع ونوزع شهادات الوطنية والخيانة ونتفق ثم نختلف ثم نتعب ويصيبنا اليأس , اتفقنا عليه , اليأس , كهدف لنا طالما أن لا أمل يأتي من تلك البلاد , حيث يولد العراقيون فرادى و يموتون جماعات.