مقامة سُكرة عراقية

مقامة سُكرة عراقية

أطل علينا المندلاوي الجميل برسالة تقول : (( الى احبتي في كل مكان , الروح مني عوسجة بر, ما وصل ليها الندى ولا جاسها بكطرة المطر)) , ذلك مايسمى بالتداعي الحر ((free association  )) الذي يتهجس المندلاوي منه , فنراه يستشهد بحنين مظفر النواب في أغنيته عن النبع الذي يسهر , ربما يريد كما مظفر (( سُكرةعراقية عالمية في النباعي )) , تلك المنطقة التي يزرع فيها البطيخ , ماؤها مرّ , ولكنها تعطي أحلى البطيخ , وهي حقيقة جغرافية وحياتية يومية في غاية الغرابة , يعرفها العراقيون , ولم تتم معالجتها علميا حتى الآن بغرض تفسيرها , إذ كيف يتحول الماء المرّ إلى ثمرة حلوة , بل شديدة الحلاوة  ؟ هذا ما يحوّله جهد الشاعر الجبّار الخالق إلى نبيذ عبر تخميره للمعنى , ليجعل الحزين سعيدا , والسعيد حزينا , ويحول ماء النباعي المرّ إلى عسل .

(( جفنك جنح فراشة غض و احجاره جفني و ما غمض يال التمشي بيا ويا النبض روحي على روحك تنسحن … حن بويه حن ,  عيونك زرازير البراريبكل فرحها بكل نشاط جناحها بعالي السحر, و الروح مني عوسجة بر , ما وصل ليها الندى , و لا جاسها بقطرة المطر , وصفولي عنك يالنباعي تفيضو تعنيت ليلة ويا الكمر ,وصفولي عنك كل مسامة تفيض منك عطر يالحسنك نهر..تنزل بصدري ويا النفس و بدمي غصبن تنعجن , و أشهق و اصعدك للسما , بحسرات و بعنة حزن …. حن بوي حن )) .

لا ندخل دائرة البهجة الكونية الكبرى كاملة , في ديوان (( للريل وحمد )) , والتي ينطلق فيها مظفر من مركز همّه الفردي لعشقه أو لحزبه بعد ان انسحب وانشق عنه , إلّا بعد أن يمهّد الطريق عبر سلسة القصائد لنتقبل الجرعات الكبرى المدوّخة لحب الوطن او الحبيب , جرعات يقطع بها خطوة واسعة من الطريق في قصيدته (( زرازير البراري )) التي أعجبت أو أثرت بصاحبنا المندلاوي , والتي قدّم لها مظفر بجملة : (( أغنية عن النبع الذي يسهر)) , ولن ندرك أهمية هذه التغييرات التي يبدو بعضها بسيطا فعلا إلا إذا سرنا مع الشاعر من بداية حكايته حتى نهايتها ,حيث نمسك كل مفردة جديدة ونحاول ربطها بالمسار ألأصيل , وتحولاته , وبالأفكار الجديدة التي اعتنقها , ودخلت إلى ساحة القصيدة وبالمناخ النفسي العام , ليعود إلى بيتي الاستهلال , ويرتد من جديد إلى بيتي الختام ليشكل الصورة الكلّية لمأساة وطن , حزب , عشق .

(( سكتاتك تشكل خواطر بالكلب , مالي عرف بيهم كبل , مبروم برم الريزة يا ريان

ومخوصر خصر لف العكل , كل كلمة منكنبعة الريحان .. بالدلالما تحمل ثكل

وصفولي عنك , وردة القداح , ريش جناح , زاهي بالسحر, وصفولي عنك شال منك غيظ بستان الورد , والنرجس الرايج سكر)) .

لقد عبّر بيتا الاستهلال والختام : ((حن وأنا حن , وانحبس ونة ونمتحن , مرخوص بس كت الدمع شرط الدمع حد الجفن )) , عن دعوة الشاعر لحبيبه ( شخص , حزب ) إلى أن يتقابلا ويلتحما حنينا ووفاء وامتحانا , هذا الإلتحام المصيري الساخن لا يمنع نوبات الحزن الآسرة التي تنمو تحت ظلال حالة الأنشقاق الجديدة , من أن تجد منفذا لها , والتي ستكون ضرورية , يلهبها الوضع الممتحن بالوفاء الجريح , لكنها ( حبسة ) الروح العاشقة , المطلوب تجاوزها , فتكون مجرد مشروع حلم , وهوام رغبة , ينتظر الشاعر تحقيقها رغم أنها جاءت مبتدئة بنداء آمر : ( حِن ) , لكن طبيعة فعل الأمر أصلا طلبية بانتظار التحقيق , وفعل الأمر في حقيقته فعل مؤجل رغم صرامته .

تدخلنا قصيدة المندلاوي , أقصد النواب ,في عيد كوني , بل في بؤرة سكرة كونية هائلة , التي سرعان ما يصحو منها العاشق الذي حلّق على أجنحة الحلم , على قساوة الفجوة بين واقعه الفعلي وآماله المتخيلة , فيعود من جديد إلى اشتراطاته المؤجلة في بيتين تتلاحق فيهما مفردات حرف( الحاء ) بصورة مدهشة :  (( حنّي بفواريز ولحن ..حنّة حمامات السجن ..   حنه إلي ..وحنّه إلك ..والّلي يعجبه خلّ يِحِن ..حِن .. بويه حِن ……. )) ,

والأمر نفسه ينطبق على الصيغة المضارعة  في شقها المستقبلي لرد فعل المتكلم : ))  وآنه احن ((المؤسس على استجابة الحبيب المُخاطَب , وعلى الفعل المضارع الجمعي  )) وانحبس ونّه … ونمتحن (( , كلها مجرد مشروع رجاء لتجنب العذاب الذي تسببه صدمة الواقع .

ينطلق الشاعر ليصوّر لنا حالة (( ما بعد الجمال )) التي يتمتع بها المحبوب , لكي نقتنع أن هذه المشقة المستميتة التي يتحملها الشاعر رغم أن أجرها بعيد , بعيد , مبرّرة , بل مستحقة , فيبدأ بوصف أجزاء جسد معشوقه واحدا واحدا , بريشة المصور الذي تتحرك حواسه في مشغل إلهي يصور فيه كل عضو لحظة خلقه ابتداءا من (جفن  الحبيب) ,

فيستولد النوّاب صورة عن صورة وجملة من جملة ومفردة من مفردة , وهذه من المميزات الأصيلة للثورة النوابية , كي يحكم روابط أبياته وبالتالي رصّ حجارة هيكل قصيدته , فإنه لن يترك موضوعة العطش والندى المحرّم على روحه وسيقابلها بموضوعة الإرتواء وغمرة الماء والجمال في حبيبه , وسيقابل حالة الحرمان الشديدة التي يعاني منها , بنقيضها , حالة (( الفيضان )) الخانقة بالسحر والعطر والجمال التي يثمل بها المحبوب .

(( شفافك ولا كولن ورد  , عنابه معكودة عكد , تمتلي بكد ما تنمرد ,لا هي دفو ولا هي برد, أنا بوصفها راح اجن …. حن بوي حن )) .

أحدث المقالات

أحدث المقالات