مقامة حَرْقِ الكُبُودِ على عراقٍ مَغْزُو

مقامة حَرْقِ الكُبُودِ على عراقٍ مَغْزُو

يا لَكُمْ من خطبٍ , ويا لَكُمْ من وجْدٍ , اجتمعتْ علينا المصائب , وتواترتْ علينا النوائب , حتى بات المرءُ يستحضرُ أقوالَ الحكماءِ والشعراءِ ليجدَ فيها عزاءً , فلا يجدُ إلا مِرآةً لأَلَمِه , وبَلْسماً لِجُرحٍ زادَهُ حرقاً , لقد سألَ الباهليُّ أعرابيّاً ذاتَ يوم : (( ما بالُ المراثي أجودَ أشعارِكم ؟ )) , فكان الجوابُ الذي كُتِبَ بالدماءِ قبلَ المِداد : (( لأنَّنا نقولها وأكبادنا تحترق )) , فباللهِ عليكم , أيُّ حرقٍ أشدُّ من حرقِ كبدِ العراق؟ لقد جُرَّتْ إلينا جيوشٌ لِتُطفِئَ شموسَنا , ولِتَزرَعَ في أرضِنا شوكَ الغريبِ وعَمَلاءَ السوءِ, إنَّ حُزنَنا على عراقٍ مَغزُوٍّ لم يكن حزناً على مفقودٍ واحد , بل هو حُزنٌ على كَبِدٍ مَشْطُورَةٍ , شطرٌ غابَ مع الأمانِ والاستقرارِ تحت الثرى , وشطرٌ باقٍ يتلوّى فوقَ الثرى تحتَ سَطوةِ الأسى والذُلّ , هذا واللهِ هو الصَّدْعُ في الكَبِدِ الذي لا يُجبرُ إلى آخرِ الأمد , فقد انقلبتْ حالُنا من دارِ قرارٍ إلى دارِ غُربةٍ في صميمِ الوطن .

يا قومُ , إنَّ المصيبةَ تجاوزتْ حدودَ البكاءِ, لقد أنشدَ العبّاسُ بنُ الأحنفِ قديماً متسائلاً: (( مَنْ ذَا يُعِيرُكَ عَيْنَهُ تَبْكِي بِهَا؟ أَرَأَيْـتَ عَـيْنًا لِلْـبُكَاءِ تُعَارُ؟)) , واليوم , هذا هو حالُنا في العراق , لم يعدِ البكاءُ يكفي , بل إنَّ الدموعَ قد جَفَّتْ من هولِ المشهدِ وفداحةِ الخَطْبِ , إننا نَتَساءلُ اليومَ بحسرة : أيُّ عينٍ تستطيعُ أن تُعيرَنا دمعَها لِنَبكيَ بها حجمَ ما ضاعَ من كرامةٍ وسيادةٍ , وحجمَ الخِيانةِ التي تسلَّقَتْ على أنقاضِ الوطنِ وأتتْ بالعملاءِ لِيَحكُموا بغيرِ حق؟ لقد بلغَ حُزنُنا أقصى حُدودِ الإعياء , حتى صرنا نخشى أن نكون كالعينِ اليُسرى التي (( زَجَرْتُها عَنِ الْجَهْلِ بَعْدَ الْحِلْمِ )) , فَتُجيبَ العينُ اليُمنى بالبكاءِ معها , لشدّةِ ما يُرى ,أما مأساةُ جوارِ العملاء , فهيَ الموتُ البطيءُ, لقد قال التِّهاميُّ في عِظَةِ رِثائهِ: ((جاوَرتُ أَعدائي, وَجاوَرَ رَبَّهُ شَتّان بَـينَ جِوارِهِ وَجِواري )) , فوا أسفاه , لقد صرنا نُجاورُ في وَطنِنا مَن هم في حُكمِ الأعداءِ , مِمّن يَتلقّونَ الأوامرَ من الغازي , ويعملونَ لغيرِ مصلحةِ العراقيين , هذا الجِوارُ المُرُّ هو ما يجعلُ الأكبادَ تشتعلُ ناراً لا تُرى , فنحنُ اليومَ نُخفي من البُرَحاءِ ( شدة الحزن ) ناراً: مِثلَ مـا يُخفى مِنَ النارِ الزِّنادَ الواري .

يُمكن وصف الحزن العراقي بأنه (( حرائق في الكبد )) , ففقدان السيادة والوطن , ورؤية الأرض تحت سيطرة الغزاة والعملاء , هو ألم لا يُدانيه ألم , و صدع في الكبد لا يُجبر, حيث انشطرت كبد الوطن بين ما ضاع وبين ما بقي تحت الأسى , إنها مأساة وجودية جعلت الأكباد تتفطر من اللوعة والتفجع على مصير البلاد , ونضوب الدموع من شدة الخطب (حجم الفاجعة) رثاء الخنساء: (( قذى بعينكِ أمْ بالعينِ عوَّارُ / أمْ ذرَّفتْ إذْ خلتْ منْ أهلهَا الدَّارُ )) , ورثاء أبي تمام: (( كَذَا فَلْيَجِلّ الخَطْبُ وليفدح الأمرُ / فَلَـيـسَ لِعَيْـن لـم يفض ماؤها عُذْرُ )) , تعكس هذه الأبيات عظم الخطب الذي لا تسعه الدموع , حزن العراقيين على ما جرى لبلادهم هو حزن (( أقصى حدود الإعياء )) , فالمصاب جلل إلى درجة أن المرء قد يتمنى (( استعارة عين)) ليبكي بها حجم الفقد والتدهور الذي حلَّ بالدولة والنسيج الاجتماعي , وكما في رثاء الخنساء , فإن الديار قد خلت من أهلها الأوفياء , أو تغيرت ملامحها , فكان لابد للعين من أن تفيض بالدموع الغزيرة.

تُجسّد المقولة المأثورة عن الأعرابي : (( لأنَّنا نقولها وأكبادنا تحترق )) , وعمق الرثاء ووصفه بأنه (( جراحات القلوب )) أبلغ وصف لحالة العراقيين , كما إن النصوص المقدمة , من حرائق الكبود إلى رثاء الخنساء والتهامي , تقدم مفردات وصوراً لا تُضاهى لوصف الألم المطلق والفقد الوجودي , ويصف حزن العراقيين الذي تجاوز كونه مجرد حزن شخصي ليصبح كارثة وطنية عارمة , وأن الكبد المشطورة ونار الأسى في رمزية فقدان السيادة , و يُمكن إسقاط شعور مرارة الجوار والصمت القسري ( العملاء في الحكم ) على العراقي الذي يرى العملاء في الحكم , إنه شعور بمرارة (( جوار الأعداء )) , أو من هم في حكمهم داخل الوطن الواحد , هذا الجوار قسري ومؤلم , ويجعل العراقي الحزين يخفي نار الأسى في صدره خوفًا أو قهرًا , محاولاً تخفيض الزفرات وكفكفة العبرات رغم أنها صواعد وجوارٍ, فيعيش حالة من الصمت القسري والألم المكتوم .

لم يكن الحزن العراقي عادياً , إنه (( احتراق كبد )) على وطن ضاع , وعلى مصير شعب تم تفتيته , فقدان الدولة الوطنية والكرامة الإنسانية تحت وطأة الغزو والاحتلال هو جرح (( مقروح)) لا يندمل , وتشير العناوين مثل (( سلوة الحزين في موت البنين )) إلى أن فقد الأبناء هو أشد أنواع الفقد , ويمكن تشبيه العراق بـ (( الأم)) التي فقدت سيادتها واستقلالها وأبناءها في موجات العنف والفتنة التي جلبها الغزو وعملاؤه , فكان حزنها لا يُدنيه حزن ,والبكاء الذي لا يكفيه البصر, على الخطب الذي حلّ بالعراق ( وهو رؤية بلادهم تُنهب وتُدار من قبل أيدي خارجية وعميلة ) , تجاوز حجم الكارثة التي يمكن للعين البشرية أن تبكيها , لقد أصبح البكاء على العراق (( بُكاءً طال حَتَّى لَمْ تَبْقَ عَيْنٌ تَبْكِي )) .

باختصار, يمكن النظر إلى هذه النصوص على أنها مرثية العراق الكبرى , حيث يمثل حرق الكبد فقدان الدولة , وتمثل العيون المستعارة عظم الكارثة , ويمثل جوار الأعداء سلطة العملاء التي فرضت نار الأسى المكتومة , يا للهول , نكتمُ غَضَبَنا , ونُخفي حُزنَنا , ونُخَفِّضُ الزَّفَراتِ وهي صَواعِدٌ , خشيةَ أن يرى العميلُ أو الغازي قُوَّةَ الوجعِ فيستزيدَ قهراً , هذا الكتمانُ هو عذابُ العراق , أن يَحترقَ أهلُهُ في دواخلهم على وطنٍ صارَ مُستباحاً , بينما يُديرُ ظَهْرَهُ لذلكَ الألمِ مَنْ لا يُؤخذُ الشَّيءُ إلا مِنْ مَصادِرِهِ ( أي من كَبِدِه ) , فلنصبرْ صَبْرَ الخنساءِ على فقدِ الأخ , ولنَتذكَّرْ أنَّ الأكبادَ المحترقةَ تُنتِجُ في النهايةِ أصدقَ وأقوى الكلمات , ولعلَّها الكلماتُ التي تُضيءُ طريقَ الخلاصِ يوماً , والأمرُ للهِ من قبلُ ومن بعد.

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات