مقامة حمالة الحطب : من شرر الشوك إلى رماد الأمة

مقامة حمالة الحطب : من شرر الشوك إلى رماد الأمة

عندما يقرأ المرء عنوان (( حمالة الحطب )) , لا بد أن يستحضر فورًا سورة المسد وزوجة أبي لهب , أروى بنت حرب , التي كرّست حياتها لإيذاء النبي محمد , كانت تجمع الشوك لتضعه في طريقه , ليس فقط لتؤذيه جسديًا , بل لأنها كانت حمالة حطب من نوع آخر: حمالة الكراهية والنميمة والفتنة , كانت تحطب الكلام , وتشعل نيران الفُرقة , وتُعير رسول الله بالفقر , هذه المرأة لم تكن مجرد شخصية تاريخية , بل رمزًا لكل من يحمل الحطب ليشعل به حرائق الخراب , بغض النظر عن زمانه ومكانه.

حمالات الحطب في العراق , لقد شهد العراق المعاصر, مع الأسف الشديد , ظهور (( حمالات حطب )) من نوع جديد , لكن أهدافهم كانت هي ذاتها : إشعال الحرائق , بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 , تحوّل العراق إلى ساحة مفتوحة لهؤلاء , لم يأتِ المحتلون وحدهم , بل جاؤوا معهم بعملاء محليين , ممن تقمصوا دور حمالة الحطب الكبرى , هؤلاء لم يرموا الشوك في الطرقات , بل أشعلوا الفتنة الطائفية , وحوّلوا النسيج الاجتماعي إلى أشلاء , كان هؤلاء العملاء  ومن وراءهم الاحتلال , هم من أشعلوا نار الفساد التي لم تترك قطاعًا إلا ودمرته , لقد أصبحت وزارات الدولة , التي كان من المفترض أن تكون حصونًا للخدمة , أوكارًا للسرقة والنهب , الأموال التي كان من المفترض أن تبني المدارس والمستشفيات , ذهبت إلى جيوب حمالات الحطب الجدد , تاركة الشعب يعاني من انهيار الخدمات الأساسية.

وعن تدمير القطاعات الحيوية , من عسكرة البلاد إلى تجريف ثقافتها , فقد كان الضرر الأكبر الذي أحدثه الاحتلال وعملاؤه , هو الانهيار الممنهج لقطاعات الدولة الحيوية , فعلى صعيد القطاع العسكري والأمني , بدلاً من بناء جيش وطني قوي يحمي الحدود , تم حل الجيش العراقي السابق , واستبداله بجيوش ميليشياوية وولاءات متناحرة , مما جعل البلاد فريسة سهلة للفوضى والإرهاب , حطب الفتنة أُلقي في صفوف القوات الأمنية , مما أضعفها وجعلها غير قادرة على حماية المواطن , وفي القطاع الصحي والثقافينرى  المستشفيات التي كانت فخرًا للشرق الأوسط , تحولت إلى هياكل مهملة تفتقر إلى أبسط التجهيزات , أما القطاع الثقافي , فقد تم تجفيفه وتهميشه , وأُحرقت المكتبات ودُمرت الآثار, في محاولة لطمس الهوية العراقية العريقة , كانت هذه أفعال حمالات الحطب التي لا تكتفي بإشعال النار, بل تحرق كل ما هو جميل وتراثي , أما القطاع التعليمي, فقد رأينا المدارس والجامعات التي كانت منارات للعلم أصبحت مرتعًا للأفكار الهدامة والمناهج التي تُلقن الكراهية , الفساد لم يترك حتى التعليم , حيث أصبحت المناصب تُشترى وتُباع , مما أدى إلى تدهور مستويات الخريجين.

كانت قوانين الاجتثاث , حطبٌ جديد للتدمير, فلم تقتصر أفعال حمالات الحطب على الفساد المالي والفساد الإداري فقط , بل امتدت إلى إصدار قوانين تدميرية , كان أبرزها قوانين الاجتثاث التعسفية , هذه القوانين لم تكن تهدف إلى مكافحة الفساد أو بناء دولة المؤسسات , بل كانت أداةً لتصفية الخصوم السياسيين وإقصاء الكفاءات الوطنية , لقد تم بموجبها إبعاد الآلاف من الكوادر المهمة والخبراء في مختلف القطاعات , من مهندسين وأطباء وأساتذة جامعات , بحجج واهية , استُبدل هؤلاء بأناس فاشلين وفاسدين لا يمتلكون أي خبرة , هدفهم الوحيد هو تنفيذ أجندات خارجية ونهب ثروات البلاد , مما أدى إلى انهيار كل مشاريع التنمية ووضع العراق في نفق مظلم.

خاتمتهم , عارٌ ورماد , إن (( حمالة الحطب )) ليست مجرد امرأة تاريخية , بل هي رمز يتجدد في كل عصر , فكما كانت أم جميل تؤذي النبي, فإن حمالات الحطب الجدد في العراق , سواء كانوا محتلين أو عملاء محليين , أذوا أمة بأكملها , وحوّلوا بلاد الرافدين إلى رماد ,  تُعبّر قصيدة الشاعر محمد بحر العلوم عن هذا الشعور بالخيانة , حيث قال : (( كنّا لكم حطباً في كلِّ نازلةٍ… فلا تكونوا لنا حمّالةَ الحطبِ )) , فالعراقيون كانوا حطبًا يدافع عن بلاده , فما كان من بعض أبنائها إلا أن حملوا حطب التدمير والفساد , إن الذاكرة الشعبية لن تنسى أبدًا من أطلق شرارة الفوضى , ومن ساهم في إشعالها , ومن ترك رماد الخراب وراءه.

أحدث المقالات

أحدث المقالات