نشر المندلاوي الجميل نصا نثريا يتضمن دعوات مراهق سبعيني , ألبني لأرتل على وقعه , فأبتديء قائلا ان الأغبياء قادتنا والأذكياء أعداؤنا , نداء يتردد في أعماقنا , وما يعانيه المتميزون في مجتمعاتنا دليلنا , و( إلى الوراء در) , في زمن الذكاء الإصطناعي المنان, وقد دخلنا القرن الحادي والعشرين ونحن نظن أنه سوف يكون نقلة في القرون كما فعل الكثيرون , فإذا بالقرون الوسطى تسابقه وتؤخرنا وتفتتنا , وكما قال ابن المقفع : (( شر الملوك الذي يخافه الجرّيء , وشر البلاد , بلاد ليس فيها أمن ولا خصب )) .
قال عبد الحميد أبو سليمان : في كتابه (أزمة العقل المسلم ) الصادر عام 1986 , (( والسبب الذي أدَّى إلى الفتنة وسقوط الخلافة الراشدة هو التغيير الذي حدث دون التفات كافٍ إليه , أو قدرة على تلافيه , ألا وهو تغير القاعدة السياسية التي ارتكزت إليها القيادة والخلافة الإسلامية الراشدة , فبعد أن كان الأصحاب و(كوادر) الأصحاب هم قاعدة دولة الرسول , وقامت على أكتافهم دولة الخلافة الراشدة بكل ما يمثله الأصحاب من نوعية وتوجه وإعداد ونضج وتربية , وفي زحمة الأحداث وتدافعها , فإننا نجد أن المجال قد أفسح واسعاً لتدفق رجال القبائل من الأعراب , وعلى ما كانوا عليه في ذلك الوقت من عصبية وجهالة من مضاربهم في أطراف البوادي للانضمام إلى جيش الفتح مع تقلص دور الأصحاب المتضائل بسبب السن والاستشهاد , لقد مكّن هذا في النهاية للأعراب من جيش الدولة بكل ما حملوه معهم إلى جانب معالم الإسلام العامة من المفاهيم القبلية والعصبيات , والذين لم تخضع نفوسهم لما خضع له الأصحاب من تربية وتدريب وتوعية على مدى سني الدعوة والمعاناة , وعبر عقود بناء الدعوة والمجتمع المسلم بقيادة الرسول وأوائل الخلفاء الراشدين )) .
أذكرعام 1991 ناقشنا رسالة ماجستير في التخطيط الاستراتيجي حول المخدرات في العراق , وتبين وجود حالتين تعاطي منذ اعلان الجمهورية 1958 , وأعدت اللجنة البحث غير مهم , لأن معضلة البحث غير موجودة أصلا؟؟ وبالأمس السيد النائب الجحيشي صرح بأننا نزرع ونصنع وننتج ونصدر المخدرات , وأن تجار المخدرات باتوا كبارا ولا يستبعد ان يفوز أحدهم بمنصب رئيس الوزراء يوما .
في المراحل الماضية , كان كتابنا الأعزاء يتأملون ما حققته اليابان وأوروبا , ثم ينزلون بنا الأسئلة : لماذا يا أيها النشامى نحن لسنا ألمانيا , ولا طوكيو , ولا حتى دوقية اللوكسمبورغ , التي لا تزيد مساحتها على مسافة بين محطتي قطار؟ الجواب السهل والسريع , هو لأننا لا نملك الصبر الصيني , والعِلم الألماني , والانتظام الياباني , أما الجواب الأكثر تفصيلاً فهو: لأننا بعد قرنين على الثورة الصناعية , لا نزال نتفرج عليها من الخارج , وعقلنا لا يزال يرفضها من الأساس , وبعضنا الآخر لا يزال يصر على أن الفضل في الطيران هو للأخ عباس بن فرناس , وليس للذين صنعوا (الجامبو) أو (الكونكورد) .
أوطاننا أصبحت أوهن من بيت العنكبوت وأفضل ما نجيده هو البكاء على الأطلال وتذكر الماضي التليد , تصور ان أمة يبلغ تعدادها أكثر من مليار موحد لا تُجيد سوى الدعاء ورفع الأكف إلى السماء والجلوس في المساجد والجوامع تحت أجهزة التبريد وهي تلفح في وجوههم ذلك الهواء العليل الذي يشد من أزرهم في الدعاء , شعوب مهزومة لا تجيد غير الدعاء والتوسل إلى السماء من أجل إنزال الغيث , تقول جولدا مائير رئيسة وزراء سابقة لإسرائيل عن أسوأ يوم وأسعد يوم في حياتها فقالت : (( أسوء يوم في حياتي كان في يوم إحراق المسجد الأقصى لأنني خشيت من ردة الفعل العربية والإسلامية , وأسعد يوم في حياتي هو اليوم التالي لأنني رأيت العرب والمسلمين لم يُحركوا ساكناً )) .
عزيزي المندلاوي الجميل أود ان أطيل فحديثك ذو شجون , ولكن لأختم بما قاله احد الحكماء يوما : (( بَنيّ , لا تعمروا مدنا في عصر من يهوى الخراب, لا تحلموا بالنوم في ظل السقوف ولا تفرشوا ارضا بثوب فقد ولّى أوان الثياب , لا تتبختروا في الشارع الرسمي مثل العاشقين , غطُّوا تآلفكم , خبّئوا القبلات في المنفى , فروائح التقبيل تغري خياشيم الذئاب , انتظروا مرور العسف تحت الأرض , وترقبوا المنفى , نعم ترقبوا المنفى , وستعمرون مدنا في عصر من يهوى الخراب )) , تلك البلاد ترامت أطرافها واستبيحت حدودها وغشّت نبيذها ,بلاد هكذا بلاد , هي بلاد قابلة للنسيان , منفاها أخْير من البقاء فيها.