28 ديسمبر، 2024 5:15 م

مقامة تأثير الفراشة

مقامة تأثير الفراشة

الدكتور فياض شريف , عضو جلساتنا ألأسبوعية في صالون الدكتور تحسين طه أفندي علق على مقامة كنت قد نشرتها مشيرا الى ظاهرة تأثير الفراشة , وقد تذكرت انه مر علينا أثناء الدراسة الأعدادية في درس الفيزياء وفي موضوع الصوت انه بأمكان نغمة موسيقية ان تهدم قاعة او جسرا اذا ماتشابه ألأهتزاز الموجي لكليهما , ولكن ذلك مثبت علميا ومفهوم عمليا , وبالتالي فهو ليس المقصود بهذه الظاهرة , وقد أستهواني الموضوع للبحث وتدبيج هذه المقامة .

ثمة ظاهرة صارت معروفة في العلم بما يعرف ( بتأثير الفراشة) تقول ان رفرفة جناح فراشة في بكين يمكن ان يحدث اعاصير في نيويورك ولها تطبيقات مهمة وشائعة , فتأثير الفراشة أو ((The butterfly effect)) مصطلح أدبي استعمله إدوارد لورينتز أول مرة في عام 1963 , وهو تعبير يصف الترابط والتأثير المتبادل أو المتواتر والناتج عن فعل تافه , بمعنى أن فعل صغير جداً ينتج عنه سلسلة أحداث متتابعة ومترابطة , مثالاً على ذلك الدومينو فدفع واحدة كفيل بجعل الكل يسقط تباعا بدون استثناء , فنظام تأثير الفراشة يصور سلوك ديناميكية الكون , ففرق بسيط يمكن أن يسبب سلسلة من الكوارث , مثلا على رأس جبل ثلجي كرة ثلجية صغيرة متدحرجة يمكن أن تولد لنا دمارا.

اعتاد المرء الاعتقاد بأن الأحداث التي غيرت العالم كانت أموراً على شاكلة قنابل مدمرة وسياسيين مهووسين وزلازل مروعة أو هجرات سكانية ضخمة , لكننا أدركنا الآن أنها وجهة نظر قديمة جداً يتمسك بها الناس البعيدون كل البعد عن الفكر الحديث , الأشياء التي تغيّر العالم وفقاً لنظرية الفوضى هي الأشياء الصغيرة , فراشة ترفرف بجناحيها في الغابة الأمازونية , وينتج على إثرها عاصفة تدمر نصف أوروبا (من رواية بشائر الخير لتيري براتشت ونيل غايمن ) , هناك جملة مشهورة لعالم الرياضيات والفلك الفرنسي لاپلاس يقول فيها: (( قد نعتبر أن الحالة الراهنة للكون هي أثر ماضينا وسبب مستقبلنا )) , فحسب هذه المقولة لو عرفنا ماضي الكون والعوامل المؤثرة فيه الآن , فسنعرف مكانه ومستقبله بعد ذلك , فالماضي سبب المستقبل وهذا ما يؤكد مفهوم الحتمية , وهكذا من كل ما سبق نرى أن نظرية الفراشة قائمة على مفهوم السببية , فلكل فعل سبب يسبب حدوثه , فمثلا لو وقع كتاب ستقول أنك حركت يدك بضربة واحدة فوقع , لكن إن تعمقنا في السبب سنجد أن طفلا صغيرا كان يجري في اتجاهك فحركت ذراعك فجأة و وقع الكتاب أرضاً , و إن بحثنا أكثر في سبب السبب هو أن الطفل رأى حشرة أخافته لهذا كان يجري في اتجاهك , وبهذا ففكرة السببية تُرجع كل حاجة إلى سببها وكل شيء يحصل بسبب فنرجع للوراء لنصل لبداية الكون.

كيف تؤدي أفعال صغيرة إلى عواقب عالمية , فماذا لو كان إنقاذ حياة واحدة قد يؤدي إلى هلاك الملايين؟ في رواية لستيفن كينج , يكتشف رجل يُدعى جيك بوابة تنقله إلى عام 1958, مصممًا على منع اغتيال الرئيس جون ف. كينيدي , يعتقد أن هذا الفعل الفردي سيفيد البشرية , بعد سنوات من التخطيط الدقيق , نجح في تغيير التاريخ , ولكن عندما عاد إلى الحاضر, وجد عالمًا مزقته الزلازل والحرب النووية , واقع بائس أسوأ بكثير من ذلك الذي تركه وراءه. مدمرًا , فيعود جيك مرة أخرى لإعادة ضبط الجدول الزمني , إن هذه القصة المشوقة توضح حقيقة عميقة : فالتغيرات الصغيرة قد تؤدي إلى نتائج هائلة وغير متوقعة في الأنظمة المعقدة , وتُعرف هذه الظاهرة باسم تأثير الفراشة ــ وهي الفكرة التي مفادها أن الأفعال الصغيرة قد تخلف تأثيرات غير خطية على نطاق عال.

وهناك الفيلم الإسباني (( سراب أو Durante la Tormenta (( , وهو تجسيد بطريقة خيالية وعلمية لمحاولة تغيير الماضي , الذي تكون له عواقب وخيمة قد تسلب منك أعز ما تملك في الحاضر, تقوم القصة على أساس أن عاصفة رعدية قد حدثت بمكان واحد , هو منزل تعاقب على سكنه عائلتين ولكن بزمنين مختلفين في الماضي والحاضر , فيحدث اتصال بين شخصيتين هما Vera Roy ) أدريانا أوغارتي) التي تتواصل مع طفل يُدعى Nico, وذلك بعد أن ظهر لديها على قناة تلفزيونية تداخلت موجاتها الزمنية بين الماضي والحاضر وقت العاصفة, هنا Vera تقوم بإنقاذ الطفل عبر تحذيره من حادث سيقع له كانت على علم به , ما سيكلفها فقدان أعز ما تملك ابنتها غلوريا وحياتها مع زوجها و تفاصيلها التي ستتغير جذريا , فنجدها طبيبة في جراحة الأعصاب ناجحة و غير متزوجة فلا يكون زوجها في حياتها الجديدة سوى مريض أجرت له عملية دماغ و ابنتها مريضة متوفية , لتحاول من جديد التواصل مع Nico للرجوع إلى الماضي و تغييره لاستعادة ابنتها و استرجاع حياتها الحقيقية , فتأثير الفراشة بقدر ما هي فلسفية هي فيزيائية ورياضية أيضا , تندرج ضمن عنوان Chaos theory نظرية فوضى الكون التي تعتبر ثالث أهم نظرية بعد النسبية لآينشتاين والنظرية الكمومية (ميكانيكا الكم) , فهذه النظرية تحاول أن تكتشف النظام المخفي في عشوائية الكون.

تبدأ نظرية الفوضى كما جاء في كتاب (( الفوضى – علم اللامتوقع )) لجايمس غليك من الحدود التي يتوقف عندها العالم التقليدي ويعجز, فمنذ شرع العلم في حل ألغاز الكون عانى دوماً من الجهل بشأن ظاهرة الاضطراب مثل تقلبات المناخ , وحركة أمواج البحر, والتقلبات في الأنواع الحية وأعدادها , والتذبذب في عمل القلب والدماغ , إن الجانب غير المنظم من الطبيعة , غير المنسجم وغير المتناسق والمفاجئ والإنقلابي قد أعجز العلم دوماً , وشرعت تلك الصورة في التغير تدريجياً في سبعينات القرن العشرين , عندما همت كوكبة من العلماء الأميركيين والأوروبيين للاجتماع بأمر الاضطراب وفوضاه , وتألفت تلك الكوكبة من علماء الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا والكيمياء , سعوا للإمساك بالخيوط التي تجمع ظواهر الفوضى كلها , من هذه الزاوية لن تستطيع النظر إلى العالم بالطريقة التي اعتدت أن تراه بها , إذاً نستنتج من هذه النظرية أنّ الواقع والحياة كنظام ديناميكي معقد ماهو إلا (( توازن دقيق بين قوى الاستقراروالفوضى)) , فنظرية الفوضى نظرية لكل العلوم , منحت الإنسان نظرة ورؤى مختلفة للعالم والأشياء من حوله.