مقامة بوصلة لطفية الدليمي

مقامة بوصلة لطفية الدليمي

في خضم صخب الآراء وتصارع الأيديولوجيات , يتكشف لنا صوت حكيم من عمق التجربة , صوت الكاتبة لطفية الدليمي التي تختزل دروس الحياة في عبارة موجزة وعميقة : (( تعلمت آخر الأمر وآخر العمر, أن لا أثق بالجهات الأفقية , أعني اليمين واليسار وما بينهما , أؤمن بالأعالي والأعماق, أؤمن بالعقل والقلب حسب )) , هذه الكلمات ليست مجرد حكمة شخصية , بل هي دعوة للتأمل في مسارات الفكر, دعوة للانعتاق من أسر التصنيفات السطحية والبحث عن الحقائق الجوهرية ,تُعبّر الدليمي عن خيبة أملها في (( الجهات الأفقية )) , وهي تسمية جامعة لكل الأطياف السياسية والفكرية التي تتنازع فيما بينها على الأرض , أو على الأقل , ضمن إطار مادي ومباشر, اليمين واليسار, وما بينهما من تيارات ووسطيات , غالبًا ما تقع فريسة للجمود الفكري والانقسام , وتُبنى على مصالح ضيقة أو تصورات محدودة للعالم , هذه الجهات , وإن بدت مختلفة في ظاهرها , إلا أنها قد تلتقي في قاسم مشترك : التمركز حول الماديات , أو السلطة , أو الإيديولوجيات الجاهزة التي غالبًا ما تُقصي التفكير الحر والنقد البناء .

إن الإيمان المطلق بهذه (( الجهات الأفقية )) قد يقود إلى تضييق الأفق الفكري , ويُدخل الفرد في دوامة من الولاءات العمياء والتحزبات التي تحجب الرؤية الشمولية, وتجربة الحياة , خاصة في مراحلها المتأخرة , تكشف زيف الكثير من الشعارات وبريق الكثير من الوازع , وتُظهر أن الحقيقة غالبًا ما تكون أبعد من التصنيفات السهلة , فعلى النقيض من (( الجهات الأفقية )) , تُقدم الدليمي بديلاً عميقًا : الإيمان بـ(( الأعالي والأعماق )) ,هذا التعبير لا يُشير إلى مكان مادي , بل إلى أبعاد روحية وفكرية تُعنى بالجوهر لا بالمظهر , (( الأعالي )) هنا يمكن أن ترمز إلى المبادئ السامية , القيم الإنسانية النبيلة , المثل العليا التي تتجاوز حدود الزمان والمكان , إنها الفلسفة التي تسعى إلى الارتقاء بالفكر البشري , والبحث عن المعنى الأسمى للوجود , هي الطموح نحو الحكمة , ونحو الحقائق الكونية التي لا تتغير بتغير الأنظمة أو الأيديولوجيات , أما (( الأعماق )) , فتُشير إلى الذات الإنسانية الداخلية , إلى العوالم الخفية للنفس البشرية , وإلى ما وراء السطح الظاهر من المشاعر والأفكار , إنها دعوة للغوص في دواخلنا , لفهم الذات والآخر, للتعاطف والتأمل , وللكشف عن مصادر القوة الداخلية والإلهام , الإيمان بالأعماق يعني الاعتراف بأن الحقيقة لا تكمن فقط في الخارج , بل هي متجذرة في أعماق الوعي واللاوعي.

وتختتم الدليمي هذا التوجه بقولها : (( أؤمن بالعقل والقلب حسب )) , هذا المزيج يكشف عن رؤية متوازنة وشاملة للإنسان , العقل هو أداة التحليل , التفكير النقدي , المنطق , والبحث عن الأدلة , إنه القدرة على التمييز بين الحق والباطل , وبين الحقيقة والوهم , أما القلب , فهو مركز المشاعر, الوجدان , الحدس , والقدرة على التعاطف والفهم العميق الذي يتجاوز المنطق الجاف , والتوازن بين العقل والقلب هو مفتاح الحكمة الحقيقية , فالعقل وحده قد يقود إلى الجفاف والبعد عن الإنسانية , والقلب وحده قد يقود إلى العشوائية والانجراف وراء العواطف , معًا , يشكلان بوصلة للإنسان في رحلته الوجودية , توجهه نحو ما هو حقيقي وأصيل , بعيدًا عن ضجيج التصنيفات السطحية ,

لاحظ ان هذا الكلام يصدر من كاتبة عاشت كل عمرها وهي محسوبة على اليسار , فهل من مدلولات ؟ إن ذلك يحمل عدة دلالات قوية , فهو يعبر عن تحرر فكري بعد تجربة عميقة , كونها محسوبة على اليسار طوال حياتها يعني أنها كانت على الأرجح ملتزمة بمسار فكري وإيديولوجي محدد , له قناعاته وأطره , عندما تعلن في (( آخر العمر)) أنها لا تثق بـ(( الجهات الأفقية اليمين واليسار وما بينهما )) , فهذا يشير إلى مراجعة نقدية ذاتية , لم تعد متمسكة بالتصنيفات الجاهزة , بل خضعت هذه الانتماءات لمراجعة عميقة بعد تجربة طويلة , هذا ليس رفضًا سطحيًا , بل نتاج نضج فكري , يعني تجاوز الانتماء الحزبي/الإيديولوجي أنها وصلت إلى قناعة بأن الالتزام المطلق بجهة واحدة , حتى لو كانت جهتها , قد يكون قيدًا على الحقيقة الشاملة أو التفكير الحر, لذا هي تبحث عن جوهر أعمق , بعد أن استكشفت ما تقدمه (( الجهات الأفقية )) من حلول ورؤى , وجدت أنها غير كافية أو غير مرضية للوصول إلى الحقيقة الكاملة .

عندما يأتي النقد من الداخل , يكون أكثر تأثيرًا ومصداقية , قول الدليمي ليس نقدًا من خصم سياسي أو فكري , بل هو شهادة من شخص عاش داخل إطار معين , واختبره بشكل مباشر , هذا يجعله أكثر إقناعًا , يصعب اتهامها بالتحيز أو عدم الفهم , لأنها تتحدث من موقع معرفة واطلاع مباشر على ما تتضمنه هذه (( الجهات )) , وشهادة على قصور التصنيفات, فهي بمثابة إقرار بأن الأطر الإيديولوجية , حتى لو كانت نبيلة في ظاهرها , قد تفشل في احتواء تعقيدات الحياة الإنسانية والوجود , إن تبرؤ لطفية من (( الجهات الأفقية )) وتمسكها بـ (( العقل والقلب )) كبوصلة , يعكس انتقالًا من مستوى الجزئي والمحدود (الإيديولوجيات) , إلى مستوى الشمولي والعالمي (الحكمة الإنسانية), وهذا يعني أولوية القيم العليا , مثل العدالة , الكرامة الإنسانية , التفكير النقدي, والتعاطف , تتجاوز الانقسامات الأفقية , هي ليست حكرًا على يمين أو يسار, وبدلاً من الاعتماد على (( الحزب )) أو (( التيار)) كمرجعية وحيدة , تُصبح مرجعية الفرد هي عقله وقلبه , وهذا يتطلب وعيًا ومسؤولية ذاتية أكبر .

بالتأكيد لا يعني كلامها رفضًا مطلقًا للمبادئ الأساسية التي قد يكون اليسار قد حملها (كالعدالة الاجتماعية أو مقاومة الاستغلال) , بل قد يكون رفضًا للممارسة العملية أو الطريقة التي تجسدت بها هذه الإيديولوجيات على أرض الواقع , وما شابها من جمود , أو انقسام , أو فشل في تحقيق الوعود ,هي تنتقد شكل التعبير عن هذه المبادئ , أكثر من انتقادها للمبادئ ذاتها , باختصار, كون لطيفة الدليمي كاتبة محسوبة على اليسار وتصل إلى هذه القناعة في آخر عمرها , يجعل قولها أكثر قوة , وأعمق تأثيرًا , وأبعد مدى , إنه شهادة من الداخل على ضرورة تجاوز التصنيفات الضيقة والبحث عن الحقيقة في الأعماق والأعالي , بالاستناد إلى أدوات الإنسان الأزلية : العقل والقلب.

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات