عندما نشر مظفر النواب قصيدته الشهيرة المغناة : (( حن وآنه أحن )) ماكانت هكذا , كانت بدايتها تقول : (( ون وآنه أون , نحبس الونة ونمتحن , مرخوص بس كت الدمع , شرط الدمع , يجوي الجفن , ون وآنه أون )) , ويبدو أنهم غيروها لضرورات التلحين أو لضمان لوعات المستمعين , وأنا اكاد أسمع ونين المندلاوي الجميل وهو يقول : (( امنية متواضعة : بعدنا نفيض اشواك , عمرنا بعز شبابه , الحب جمع كلبين , حلاة الحب عذابه , فمتى ؟؟؟؟؟؟؟؟ لكينا اليسعد الروح كتاب الحب كتابه , صبرت ,  صبرت , صبرت ,وعوض الله على اشكد ما صبرنا , ومن اجمل ما اتمناه ان يتحقق ان اغني  :وداعا يا حزن ولا ترجع بعد !!!!!!!!)) , تلك ونة صاحبنا الثمانيني  التي تعبر عن وجع العمر الضائع , يموسقها لنا على وقع المدمي , وحسرات طلعان الروح , في عمر تبدد .

قد يمثل (( ونين المندلاوي )) صوتًا شخصيًا ومؤلمًا , ولكن لو حللنا مايقوله : (( عمرنا بعز شبابه , صبرت , صبرت , صبرت , وداعاً يا حزن )) , نجد هذه الكلمات تعبر عن مشاعر لجيل كامل من العراقيين الذين عاصروا الحروب والنزاعات , وبددت أحلامهم وآمالهم في ظل ظروف قاسية , هنا نتمكن من ربط هذا الونين الشخصي بالوجع الجمعي الذي يتجاوز الفرد ليشمل كل من عاش التجربة , ولربط الونّة بالحكمة والمصير نستذكر قصيدة (( البراق )) لأبي فراس الحمداني , فعلى الرغم من أن القصيدة تتحدث عن المجد , الا ان فيها شواهد مثل : (( وَقَد يَكونُ لِكُلِّ شَيءٍ وَنّ وَلَكِنَّ وَنّاً عَلى أُخرى يَشيرُ   فَإِنّي رَأَيتُ الوَنّ مِنها هُنا وَعَلَى الوَجَهَينِ الأَسى وَالمَصيرُ )) , هذان البيتان يطرحان فكرة أن (( الونّة )) جزء من المصير, وأن لكل شيء نهاية مؤلمة )) .

يعطي هذا النص عمقاً تاريخياً , ويُظهر أن (( الونّة )) هي تجربة إنسانية مشتركة , تتجاوز العصور والأجيال , وهذه قصيدة حرز للنواب : (( بيه أونين ماونه كبل مذبوح صبر اكبور , بومه اتموت , بومة تنوح , وحشه وظلمه يسحن ضلع فوك الروح , وأسري بليل أضم أجروح حدر أجروح  واجزي أمضايف الطيبين شيمه وهيل وافناجين ,كل دله ابسماهه اهلال تشرك بالمضيف اسنين , وأنته اهناك بالدخان تعلك لهبه ارياحين , كريه وزبونك طيف طرز نومة الغافين, سيلن ياغتر واسكن فججنه اطيور وبساتين اذكرك ياحرز والروح بيهه اونين يصك اونين )) , ذلكم هو الوجع الشامل , الذي يعبر عنه المندلاوي , حيث ثمة تداخلٌ واضحٌ بين الهم العاطفي وبين الحس الوطني الأصيل , وكثيراً ما تغنى االشعراء بالأفكار الإنسانيَّة المنيرة , وبالعمر المفقود , وبالأبطال الذين قدموا أنفسهم قرباناً على طريق الحرية والعدالة والحق والمساواة .

قد يُخفف الفن من قسوة الوجع ليصبح أكثر جماهيرية وتأثيراً , وهكذا من ونّة النواب إلى ونّة الثمانيني , حكاية وجع لا تنتهي , وعندما يصبح الونين لغة , نطالع الوجع العراقي بين الشعر والحياة , فنستنتج ان  (( الونّة )) ما زالت حاضرة في الوعي العراقي , وأنها أصبحت جزءا من الهوية الثقافية , فليس الونين مجرد صوت , بل هو لغة بحد ذاتها , تعبر عن ما لا يمكن قوله بالكلمات , والونّة لا زالت مستمرة , وكذلك الأمل يبدو مفقودا , فكيف سنجيب عن السؤال الذي طرح ضمنيًا : هل يمكن أن تأتي نهاية للونين ؟ وماذا يعني أن يغني أحدهم (( وداعاً يا حزن)) ؟ ليس أمامنا ألا التطلع للمستقبل , مع أضفاء لمسة من التفاؤل الحذر.

قالَ قائل : (( هنالكَ نوعٌ منْ التعب , لا يشبهُ الإرهاقُ – الجسدُ – أنهُ تعبَ الروح , عندما , لا تستطيع  شرحُ ما يؤلمك , فتكتفي بالسكوت , وتبتسمَ لكي , لا يسألكَ أحدا )) , تلك هي الشقشقة , التي هاجت بها روح صاحبنا المتعب , فتسببت أن اهديكم هذه المقامة .

أحدث المقالات

أحدث المقالات