الوسوسة لغة : مصدر قولهم : وسوس يُوَسوِس مأخوذ من مادة (و.س.س) التي تدل على صوت غير رفيع , يُقال لصوت الحُلي : وسواسٌ , وهمس الصائد : وسواسٌ , وإغواء الشيطان ابن آدم وسواس ,هي نوع من الأفكار غير المرغوب فيها , غالباً ما تكون مزعجة أو غير مريحة , وتحدث بشكل متكرر في أذهان الأشخاص المصابين بها, قد تكون هذه الأفكار على شكل مخاوف , أو أفكارًا , أو صورًا , أو دوافع على فعل شيء ما, هذه الأفكار تدفع الشخص إلى الانشغال بها بشكل مفرط , مما يؤدي إلى القلق والتوتر.
والوسواس: أفكار وصور ودوافع متكررة تسيطر على الوعي , وقد وجد الباحثون أن الشعراء والمفكرين والفلاسفة العرب مصابون بداء الوسوسة بالتأريخ والدين بل كان الشعراء يعتقدون ان لهم شياطينا تناجيهم وتلهمهم أشعارهم , وقد كتب الدكتور جواد علي في المفصل في تاريخ العرب قبل الأسلام : ((ولا بد لي من أن أشير إلى ما كان يعتقده الجاهليون من أن الشعراء كانوا يستلهمون وحيهم بالشعر من شيطان , كنوا عنه بـ (( شيطان الشاعر)) , فقالوا: (( لكل شاعر شيطان )) , وهم يعبرون بذلك عن الحس الذي يصيب كل إنسان حساس شاعر عندما يهز مشاعره وإحساسه شيء ما يؤثر عليه فيستولي على عقله وشعوره ويستهويه , ولا يتركه يستقر ويهجع حتى يعبر عن شعوره هذا الذي يسطر عليه وملكه , بشعر يأتيه وكأنه وحي ينزل عليه تنزيلا , وعندئذ فقط يستقر ويهجع , بعد أن يكون قد نسب هذا الشعور المرهف الذي ألَمَّ به إلى وحي شياطين الشعر)) .
لطالما عانى العقل العربي من حالة من الوسوسة الفكرية , والتي تجلت في أشكال عدة عبر التاريخ , فبدلاً من الانفتاح على المعارف الجديدة والتفكير النقدي , انغمس هذا العقل في دوائر مفرغة من الجدل العقيم والتفسيرات المغلقة , هذا الانغلاق لم يكن مجرد ظاهرة هامشية , بل أصبح وسواسًا متفاقمًا يغذي نفسه بنفسه , جيلًا بعد جيل , لقد أسهمت عوامل متعددة في هذا الانغلاق والوسواس , منها الجمود الفكري الذي طال المؤسسات التعليمية والدينية , والتبعية الفكرية التي جعلت من الصعب على العقل العربي إنتاج أفكاره الخاصة , بالإضافة إلى الظروف السياسية والاجتماعية التي قمعت حرية التفكير والتعبير , كل هذه العوامل , مجتمعة , خلقت بيئة مواتية لنمو الوسواس وتفاقمه , ليصبح جزءًا لا يتجزأ من النسيج الفكري للمجتمع .
إن الوسوسة , تلك الحالة النفسية التي تتسم بالأفكار المتكررة والقهرية , ليست مجرد اضطراب فردي , بل يمكن أن تتسرب إلى تيار الفكر الجمعي لمجتمع ما , لتصبح عائقًا حقيقيًا أمام التقدم والازدهار , هذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في سياق العقل العربي , الذي يبدو وكأنه انغلق على نفسه في دوائر ضيقة متسارعة الدوران , حيث تفاقم الوسواس ليحجم قدرة الأجيال على الاقتراب الموضوعي والعلمي من القضايا المحورية , وأضافة الى الوسواس التاريخي , فإن أخطر تداعيات هذا الانغلاق والوسواس هو إهمال العلم وتهميشه , فالعلم , بطبيعته , يتطلب انفتاحًا على التجربة والملاحظة , وقدرة على التفكير النقدي والتشكيك في المسلمات , ولكن عندما يسيطر الوسواس على العقل , فإنه يصبح أسيرًا لأفكار ثابتة لا تقبل التغيير أو التشكيك , مما يحول دون التطور العلمي , لقد انعكس هذا الإهمال بشكل واضح على مسيرة التطور العلمي في العالم العربي , حيث تراجع البحث العلمي وأصبح الإبداع نادرًا , لم يعد العلم غاية في حد ذاته , بل أصبح أداة لتحقيق مصالح ضيقة , أو مجرد زينة ثقافية لا قيمة لها .
كما أن هذا الانغلاق والوسواس أدى إلى اندحار المفكرين والفلاسفة , فالمفكر, بحكم طبيعته , يسعى إلى طرح الأسئلة الصعبة وتحدي الأفكار السائدة , ولكن في بيئة يسيطر عليها الوسواس , يُنظر إلى المفكر على أنه تهديد , وتُتهم أفكاره بالبدعة أو الانحراف , وهكذا , يُدفع المفكرون والفلاسفة إلى زوايا حادة وخانقة , حيث تصبح أصواتهم مهمشة وتأثيرهم معدومًا , هذا الاندحار ليس مجرد خسارة للأفراد , بل هو خسارة للمجتمع بأسره , الذي يحرم من العقول النيرة التي يمكن أن تدفعه نحو التقدم والازدهار , وإن تداعيات هذا الانغلاق والوسواس الفكري مريرة ومتعددة الأوجه , فمن جهة , فإنه يعمق الفجوة بين العالم العربي والعالم المتقدم , الذي يسير بخطى سريعة نحو التقدم العلمي والتكنولوجي , ومن جهة أخرى , فإنه يغذي التطرف الفكري والتعصب , حيث تصبح الأفكار المغلقة هي القاعدة , ويرفض أي صوت مخالف , لذلك , من الضروري أن يدرك العقل العربي خطورة هذا الوسواس , وأن يسعى إلى التحرر منه , هذا التحرر يتطلب جهدًا جماعيًا , يبدأ من تغيير المناهج التعليمية , إلى دعم البحث العلمي , وتشجيع التفكير النقدي , وصولًا إلى فتح الأبواب أمام المفكرين والفلاسفة , فالطريق نحو التقدم يبدأ بالانفتاح على الآخر , وتقبل التنوع , والتخلص من الأوهام والوساوس التي قيدت العقل العربي لعقود طويلة .
في الشعر الجاهلي , كان الاعتقاد بوجود (( شياطين الشعر)) أو (( نجي )) شائعًا بين الشعراء , حيث يُعتقد أن الشاعر يمتلك شيطانًا يملي عليه الشعر أو يلهمه به, كان هذا الاعتقاد جزءًا من الميثولوجيا العربية القديمة , حيث كان الجن والملائكة والأنفس البشرية تعتبر قوى مؤثرة في الحياة , وكان يُعتقد أن الجن والشياطين هي مصادر الوسوسة لإلهام الشعراء , وأنهم هم الذين يملون عليهم الشعر أو يحثونهم على الإبداع , وكان الكهان يستعينون بالشياطين في الأخبار عن المغيبات , يذكرون أن الشياطين يسترقون السمع من السماء , فيخبرونهم عن أنباء الأرض , وهكذا تكمن المشكلة الحقيقية في الوسواس المتفاقم في مسيرة الأجيال , ومن الواضح أن إنغلاق العقل العربي في دوائره الضيقة المتسارعة الدوران , حَجَّم قدرات الإقتراب الموضوعي والعلمي من الحالة , فأهمل العلم وما عاد يذكره , وإندحر المفكرون والفلاسفة في زوايا حادة خانقة ذات تداعيات مريرة .
يقول جميل صدقي الزهاوي : (( أسرفت يا إبليس في الوسواس فأعوذ منك برب هذا الناس , أغويتني من بعد ما استدرجتني مستحوذاً حتى على أنفاسي , حسنت في عيني الشرور فجئتها وضممت ارجاساً الى ارجاس , ونفذت في اعماق نفسي فاتحا حتى ملكت منافذ الاحساس , فتعاورتني للشكوك وساوس سود وعافت مجلسي جلاسي , افرغت قلبي من رضى يقينه وملأت بالشك المبرح راسي )) , ولأبن القيم كلام بديع في بيان مخاطر الخواطر السيئة والوساوس الشيطانية : (( لا ريب أن دفع الخواطر أَيسر من دفع الإِرادات والعزائم , فيجد العبد نفسه عاجزاً أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة , وهو المفرط إذا لم يدفعها وهى خاطر ضعيف , كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطب يابس , فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها)) , ويقول عبد الغني النابلسي : (( اغسلوا بي نجاسة الوسواس عن قلوب لكم بها الجهل راسي , يا صحابي فإنني ماء قدس نازل من حظائر الأقداس , وانشقوا عرف روضتي فعساكم أن تشموا منها شذا أنفاسي , واسبحوا في مياه بحر علومي واكشفوا بي ستائر الإلتباس , وادخلوا حانتي معي واشربوا من خمرتي واسكروا بفضلة كاسي )) .