مقامة الوجع الطيب

مقامة الوجع الطيب

بعث صاحبنا البدوي الناهض رسالتين الى حبيبته سرور قبل العام الجديد , يصف فيهما مايحدث له ولبلده من مرارات سماها بالوجع الطيب , ترى من اسماها سرور ؟ هو لا يعرف ان العرب متعودون منذ القدم ان يسموا أبناءهم ((فهد وسبع ونمر وكلب ….الخ )) ,لأنهم كانوا ولا زالوا أصحاب حرب , ويريدون أن يهوِّلوا على أعدائهم بأسماء أولادهم ,  اما (( سرور و ورد و جمال …الخ )) فهذه يسمون بها خدمهم وعبيدهم , فماذا يتوقع  ممن قال عنهم الأله (( اشد كفرا و نفاقا )) ؟

عندما نشر البارون دي مونتسكيو كتابه الأشهر ((روح القوانين)) في عام 1740 , وظّف مفهوماً كان متداولاً بين بعض المثقفين الأوروبيين لوصف الحكم العثماني , وهو          (( الاستبداد ))  , وذلك بهدف توفير ذريعة لنقد وإصلاح النظام الفرنسي الذي عاش في ظله , لكنّ تفسيره للاستبداد الشرقي أصبح تدريجياً بمثابة حكم تاريخي مبرم على طبيعة المجتمعات (( الشرقية )) لأجيال من مؤلفي الكتب والدارسين ورواد الرحلات في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر , كان هذا المصطلح يعني مجتمعا ثابتاً وخانعاً , وحكومة متخلفة وفاسدة , مع حكام تعسفيين وديكتاتوريين , يمتلكون رعايا أذلاء ومهمشين , فما الذي نترجاه ياسرور ؟.

يا سرور ان قرأت شيئا عن شقاء النسور فلا تسأليسوى عن تحليقها الذي لايعرف نهاية ,
او الذي لا يريد الا امتدادات كتابة جديدة للافاق ,انها حكمة الفدائي الأبدية ولو كان يتأمل وردة نازلةاو صاعدة في البال , وليسَ في وطَني حِدأةٌ تُغنّي , فاللصوصُ الأوفياء , لدينِ السَرِقة , جعَلوها تَجوع , في بَلدِ الفِئران , ودرويشنا أخفى خَلفَ عَينَيه  سِرّهُ المُقدّس بينَ جَفنَيه , وفي كلّ رَمشَة , يَقطُرُ الوَرَع , واختلاسُ النَظر الى غَنيمةٍ عَمياء , وجميعُ ثيرانِ الوطَن بلا قرون , عدا الحَمير.

وأنت يا صاحب سرور , ما الذي رأَيتَ , لمّا نَظَرتَ خلفَ كتِفِك , أشياؤُكَ الجَميلةُ لن تَلحَقَ بك , فادّخرْ شَهقاتِكَ لمَوسمٍ آخر , لقد ذهَبتَ بَعيداً , لم تَحسبْ من قَبل خُطواتِكَ بعدَ الأفُق , فصِرتَ في المَغيب , تَحسدُ الشُروق , وفجر رحلاتك القصية أسلحَته كثيرة , ولمّا أُرغَمُ على استِخدامِها , في رمَقه الأخير , قتُلته , وحينَ انكَفَأتَ على وجهِك , على طريقٍ مُستَوية , كانَ لعَينيكَ رأيٌ آخر , أفصَحَتْ عنهُ , لغيرِك , صحيح أنك تَمنّيتُ لو أنّ الحُبَّ أرحَبَ مما كان , ولكنك لم تحتملْ كلّ الانفِراجات فيه , فانفَجَر.

وبعد خمسون عاما ياصاحب سرور , أدركت ان ما كُتبَ عليكَ أيّها الجَبين , لم يتركْ فيكَ موضِعاً صَغيراً , يدومُ ابتهاجك فيه , لتحكيه كقِصّةٍ تُروى , لا نسألك عن احمرارِ عَينَيّك , فنحن نعرف ان ذلكَ أدنى النَزف , من قلبٍ  يَسحَلُ الخَفَقان , ما تراهُ من رَعشةِ اليدين ليسَ إلّا انتقاماً , من أفكارٍ  رسَوتُ بها على شاطئٍ , ليسَ لك , أراك تحسدُ الصَقر , فهو ليسَ مثلك , لا أحدَ يَسرقُ منهُ الفرائس , بحيلةٍ صَغيرة , وينجو , ها انت تفاخربمدينتك العذراء

فلم أحرقْت جَميعَ السفُن , خلفك , ولا تدري انك عبرتُ على خشَبَة , ضلّت المسار , فأبق
مغمض العينين , بعدما أطفأت الشَمس خشية أشباحَ اليقَظَة , أشباحُ الظَلام , بلا أجنحَةٍ أو أسنان , وحينَ قَرَعَتْ أجراسُ الكنائس , موسيقى بيتهوفن , سَمعتُ عَزْفَ العودِ في المآذِن , هذا ما قلتُهُ , تحتَ التعذيب , بتهمةِ الفَرَح .

نحن نعترف يا سرور وبكل أسف بأنا شعوب لها ذاكرة الأسماك , أو بلا ذاكرة , فما إن بنينا شبه دول حتى نشطت عندنا الإنقلابات العسكرية والصراع المميت على السلطة , وأثبتنا أننا شعوب تحمل الكثير من العدوانية , ولأننا لانستطيع تحويل هذه العدوانية ضد الغير من الشعوب بسبب ضعفنا , حولناها ضد بعضا البعض , فكل مايحدث ليس صدفة , بل هو مستمد من ثقافة عدوانية مرعبة نحملها في داخلنا , ثقافة تتوالد وتؤثر في صياغة عقولنا , لذلك , مضر جداً أن نرمي فشلنا وفسادنا على الإستعمار والإمبريالية , لأن العيب فينا , أو كما يقول المثل (دود الخل منه وفيه) , هل أستفادت دولة عربية واحدة من الإستعمار أو الإنتداب الغربي وبنت دولتها وبلدها وعملت من أجل أوطانها ؟ على العكس فإن النزعة الفردية العدائية وثقافة الغنيمة مازالت سائدة , وبقيت القبيلة أساس من أسس العقل العربي , وهذا أهم الأسباب التي لم نستطع فيها بناء أوطان أو دول صحيّة لأن من أصغر موظف إلى أكبر مسؤول لايفكر إلا بالهبش والغنيمة خلال وجوده في السلطة.