ان من أكثر ما أمتعني في معرفة معاني مفردة (( النوم )) كما وردت في آيات قرآننا الكريم , فمقدمة النوم : تسمى (( سنة )) , وبداية النوم : تسمى (( نعاس )) , والنوم المتقطع : يعني (( هجوع )) , والنوم الطويل : يسمى (( رقود )) , ونوم النهار: يسمى (( قيلولة )) , وقول عبدالله بن عمرو بن العاص : (( النوم على ثلاثة أوجه : نوم خُرق , ونوم خَلَق , ونوم حُمق , فأما نوم الخرق فنومة الضحى يقضى الناس حوائجهم وهو نائم , وأما النوم الخلق فنوم القائلة نصف النهار , وأما نوم الحمق فنوم حين تحضر الصلاة )) , ومن أبلغ ما قيل في النوم : (( وإني في هوى نومي متيمٌ ومالي سوى النومَ عشيقًا , وددتُ لو أني في يومٍ أعانقه , وأخبره أني في هواه غريقا )) .
قالوا في الأمثال : (( قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة : الاكل والنوم والكلام والمخالطة )) , و ((ثلاث يساعدن على تحمل مشقات الحياة: الأمل والنوم والضحك )) , وذلك ابن الخطاب الذي قالوا له : (( أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها )) , و (( نم فالملائكة عيناها يقظى , فذا يرعاك مبتسماً , وذا مترنمًا , نم واجتنٍ أحلام أزهار الصبى واستنزل الزهر النجوم من السما , شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا , فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا , وذاك لأن النوم يغشى عيونهم سراعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا )) , والنوم هبة إلهية لولاها لاجتاح العالم الجنون , ونوم على يقين خير من صلاة على شك , كم أفتقد ذلك النوم الذي كان يأتي وحده ليلًا , ليتسرب داخلي برفق , ويطيب خاطري , ويغسل همومي , خدرٌ شهيُ , ليهرب مع أولى اللحظات التي يغزو فيها ضوء الصباح الغرفة , يأتي رقيقًا , ويغادر رقيقاً , وأقوم كمولودٍ جديد يستقبل الحياة لأول مرة.
النوم ضروري لصحة الإنسان الجسدية والعقلية , وهو ليس مجرد فترة راحة , بل هو عملية حيوية تؤثر على كل جانب من جوانب حياتنا , تتأثر جودة النوم بعوامل عدة , مثل عدد ساعات النوم , وانتظامه , وظروف البيئة المحيطة , الا انه نقل عن الأديب الإنجليزي وليم شكسبير قوله : (( أيها النوم , إنك تقتل يقظتنا )) , في إشارة إلى أنه يأخذ من الوقت الذي نعيشه ونحن مستيقظون , لكن دراسة جديدة أظهرت أن شكسبير ربما كان محقا أكثر مما تخيل , وأن النوم قد يقتل الشخص حرفيا , ويعرف أن لقلة النوم مخاطر صحية , ولكن الدراسات الجديدة تؤكد أنه إذا كان النوم القليل ضارا , فإن كثيره ضار كذلك , ويقول الفيلسوف الوجودي في كتابه: (( أُقسّم وقتي كالتالي: أنام النصف الأول , وأحلم في النصف الثاني , ولا أحلم قطّ عندما أكون نائمًا , إذ سيكون هذا أمرًا مؤسفًا , فالنوم ذروة العبقرية )) , ورأى عبدالله بن عباس ابناً له نائماً نومة الضحى , فقال له : (( قم , أتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق )) , وقول الشاعر: (( ألا إن نومات الضحى تُورث ألفتى خبالاً ونوماتُ العصر جُنون )) , وقول الإمام الغزالي: (( النوم موت فتكثيره ينقص العمر )) .
يذكر الشعراء عن النوم : (( تجافى النوم بعدك عن جفوني ولكن ليس يجفوها الدموع , يطيب لي السهاد إذا افترقنا وأنت به يطيب لك الهجوع )) , (( ما لي أَرى النَومَ عَن عَينَيَّ قَد نَفَرا أَأَنتَ عَلمتَ طَرفي بَعدَكَ السَهَرا , وَما لِذِكرِكَ يَصلى النارَ في كَبِدي أَهَكَذا كُلُّ صَبٍّ أَلفَهُ ذكرا )) , والنوم ليس مجرد رفاهية , بل هو حاجة بيولوجية أساسية لا تقل أهمية عن الأكل والشرب والتنفس , إنه عملية معقدة وحيوية تسمح لأجسامنا وعقولنا بالراحة والتعافي وإعادة الشحن استعدادًا لليوم التالي , وفي عالمنا المعاصر سريع الخطى , غالبًا ما يُنظر إلى النوم على أنه مضيعة للوقت أو حتى علامة على الكسل , لكن الحقيقة هي أن إهمال النوم يمكن أن تكون له عواقب وخيمة على صحتنا البدنية والعقلية وإنتاجيتنا.
النوم ليس ترفًا , بل هو ضرورة حتمية لصحة شاملة وحياة منتجة , الاستثمار في نوم جيد هو استثمار في صحتنا البدنية والعقلية , وفي قدرتنا على الأداء بأفضل شكل ممكن في جميع جوانب حياتنا , لذا , حان الوقت لإعادة تقييم علاقتنا بالنوم ومنحه الأولوية التي يستحقها , ويلعب النوم دورًا محوريًا في الحفاظ على صحة أجسامنا , أثناء النوم , يتم إصلاح الخلايا والأنسجة , ويعاد بناء العضلات , وتطلق الهرمونات الضرورية للنمو والتطور , كما ان الجهاز المناعي يعتمد بشكل كبير على النوم الجيد ليعمل بفعالية , والنوم الكافي يقوي دفاعات الجسم ضد الأمراض والالتهابات , وعلى النقيض يؤدي الحرمان من النوم المزمن إلى إضعاف الجهاز المناعي , مما يجعلنا أكثر عرضة للإصابة بالأمراض , كما يرتبط النوم بجوانب أخرى من الصحة البدنية مثل تنظيم الوزن , حيث يؤثر على الهرمونات التي تتحكم في الشهية , وصحة القلب والأوعية الدموية , فقلة النوم يمكن أن تزيد من خطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب.
تأثير النوم لا يقتصر على الجسد فقط , بل يمتد ليشمل صحتنا العقلية والعاطفية بشكل كبير , الدماغ لا ينام أبدًا , بل ينشط بطرق مختلفة أثناء النوم , يقوم بمعالجة المعلومات التي تم جمعها خلال اليوم , تخزين الذكريات , وتوحيد التعلم , هذا ما يفسر لماذا نشعر بأننا أكثر يقظة وتركيزًا وقدرة على حل المشكلات بعد ليلة نوم جيدة , على الصعيد العاطفي, يساعد النوم الكافي على تنظيم المزاج وتقليل التوتر والقلق , الأشخاص الذين يعانون من الحرمان من النوم غالبًا ما يجدون صعوبة في التحكم في عواطفهم , ويكونون أكثر عرضة للتهيج والتقلبات المزاجية , يمكن أن يؤدي نقص النوم المزمن إلى تفاقم حالات الصحة العقلية مثل الاكتئاب والقلق .
في بيئة العمل أو الدراسة , يُعد النوم الجيد عاملًا حاسمًا في زيادة الإنتاجية والأداء , عندما نكون قد نمنا جيدًا, نكون أكثر قدرة على التركيز, واتخاذ قرارات أفضل , وحل المشكلات بفعالية , تقلل قلة النوم من اليقظة والتركيز, مما يؤدي إلى زيادة الأخطاء وتقليل الكفاءة في المهام اليومية , كما يؤثر النوم على الإبداع والقدرة على التفكير النقدي , فخلال مراحل معينة من النوم , يقوم الدماغ بإعادة ترتيب الروابط العصبية , مما يمكن أن يؤدي إلى رؤى جديدة وحلول مبتكرة.