5 نوفمبر، 2024 2:01 م
Search
Close this search box.

مقامة النقاء

أرسل لي أحد ألأصدقاء نصا يبتدأه ب ( صباح النقاء ) , وأضاف له العبارة التالية : ((لا أدري كيف يواجه قلب نقّي كل هذا الغبار اللعين والمعادن الرخيصة وكل هذا  الصدأ))  ,

مما أوحى لي بالمقامة الآتية :

 

تنفرج الأسارير لكلمة النقاء , ويكون حُسنُ الافتتاحِ بها داعِيَةُ للأنشِراحِ , ومَطِيَّةُ للنَّجَاحِ ,

لتحسب من مُتع النفس ومباهجِ العقل , ولتنجدل هذه المتع بظفائر أخرى من البهجة وسرور الأرواح , فعندما تستيقظ صباحا لتجد أمامك نصا عنوانه النقاء , فذلك تفاؤل يجعل نهارك جميلا بلا شك , ويجعل حلم اللقاء السرمدي سائرا بتلك الموسيقى ذات ألأنغام المشتهاة , التي تنسينا كل وجدانيات الحنين وألأشواق , فذلك بلا شك حالة خلق للفرح من رحم الفراق , حين يكون البوح مليئا بالسرور والبهجة ألأفتراضية , ما أحلاه خصوصا عندما يخبرنا أنه أزلي ينسكب في تلافيف ألأرواح , أحب حياكة هذه الأنامل و ترانيم تلك الألحان, هكذا نص بهيج يعجبنا نحن القراء الممتلؤون بأشواك الحياة , فحبذا لوأكثرنا منه.

 

سَـلامٌ عليٰ مَـن طَـرقُـوا أبـوابَ الـرُّوحِ بِـ نبَضـاتِ قُـلوبِهـم فَـ كُنَّـا لهُم مُنصِّتِين ,  وحِيـنَ أرخُـوا عليها أشـرِّعَـةَ الأمَـانِ نبَـضَت قـلوبُنـا بالحُبِّ أن إدخُـلوها بِسَـلامٍ آمِنيـن , ولا يهم أن يحمل الوجه كل صفات الجمال , المهم حقا أن يكون العقل كذلك أيضاً , فلنكبّر العقول ,فالجمال يزول فيما العقل تتسع مداركه كلما مرت الأيام والسنين , وندرك ان الحب اختفى من الشوارع الظليلة , ولا غير الذكريات والاسى على ما ضاع في الكون من ذلك الجمال , الا ان عبارة النقاء وهبتني فرحا في هذا الصباح ,وبقيت مشرقا بها لتمنحني وجها نورانيا وابتسامة تكشف السحب , وترسم الوردة للناس .

 

عندما عاتب الماء الزيت , قال له : كيف تعلو علي وأنا من أنبت شجرتك ؟ أين الأدب ؟ فقال الزيت بكل نقاء الفصاحة : أنت نشأت في الأنهار رضاضآ , وأنا على العصر والقهر صبرت , فبالصبر يعلو القدر, فلا نتعجب من نقاء روح عصفور يهرب ممن يقترب منه وفي يده طعام له  , فالطيور عكس بعض البشر تؤمن بأن الحرية أغلى من الخبز , والدموع النقية ليست قطرات , بل هي كلمات , لكن من الصعب جدآ أن تجد شخصآ يقرأ ويفهم هذه الكلمات , ولما كانت الكلمات كالبذور تغرس في القلوب وليس في الأرض , لنحترس مما نزرع ونراعي مانقول فقد نضطر يومآ لأكل ما زرعناه .

 

نفهم نقاء المواقف من قراءة رسالة ابن طاووس , فعندما عرف المستنصر بمكانته العلميّة والدينيّة , طلب منه أن يتولى منصب المفتي الأعظم للبلاد الإسلامية , غير أن ابن طاووس رفض طلب الخليفة , ثم أوضح سبب ذلك في رسالة بعثها إلـى ولده , وكان مما جاء فيها : (( يا بني  , لا تُحمد عاقبة من تواطأ مع الظالمين , ولا يرجى خيرٌ من عالمٍ جلس على موائدهم , فهم يستبدلون الدين بالدنيا  , ويشترون الفتاوى بمئات الدنانير , فهل أبيع ديـني بدنياهم ؟ هيهات , فإنما هـي القطيعة مع الله سبحانه )) .

 

كتبت غادة السمان , بلغة صافية ونقية , وهي تناجي الوطن : ((  كل المستحيلات تتذلل حين تكون الأهداف أكبر كثيراً من المعوقات , ومنها الزمن , غيابك يغتالني , وحضورك يغتالني , لأنّه عتبة لغياب جديد ,  لماذا بعد أن علمتني أن أعيشك وهمًا , وتعيشني حلمًا , عدت تبحث عن ماهيتي وحقيقتي ؟  وأنا في الوطن كنت أبكي شوقًا للرحيل إلى المنفى , وها أنا اليوم أبكي , لأنّني حققت أحلامي , فلا تُحاول أن تأخذ شجرتك معك إلى الغربة لتحظى بظلّها , لأنّ الأشجار لا تُهاجر , وذلك الألم الدقيق الذي لا اسم له ولا تبرير, يخترقني حتى العظم بلحظاته العابرة الكاوية , كنت ممتلئة بك , راضية مكتفية بك , ولكن زمننا كان مثقوبًا , يهرب منه رمل الفرح بسرعة ,  لقد ركبت قطارات كثيرةً , وأخطأت حين توهمت أنّني سأجد دربًا لا تقودني إليك )) .

من نقاءات الأكمة نقرأ لدون كيشوت وتابعه سانشو هذا الحوار :

((دون كيشوت: هل يجوزُ التّحَكّم بالقلوبِ عن بُعْدٍ يا سانشو؟

سانشو: ليسَ لديّ أدنى فِكْرة ولكن قد تكون الطائراتُ المُسيَّرة هي الحَلّ.

دون كيشوت : تعني أن يُطيّرَ العاشقُ قلبهُ فوق من يحبُ مثل كاميرة بهدف مراقبة مشاعره؟

سانشو: لا يا سيدي الدون , ما قَصدتهُ أن يدخلَ العاشقُ والمعشوقُ مرحلة القَصِف.

دون كيشوت : وماذا يبقى من الحبّ بعد القَصِف أيها الأَحْمَقُ ؟

سانشو: يبقى العدمُ الجميلُ يا سيدي الدون  , ففي مراتبهِ تتجلّى الأرواحُ بالآثام اللَّذَّيذة العظيمة , وترتاحُ الأجسادُ من الكَساد وتَراكُم الثُلُوج.

دون كيشوت : أهذه هي الرومانسية العدمية التي وصلت سقفَها يا سانشو؟

سانشو: أجل يا سيدي الدون , فغياب بعض النساءات قد يصبح بفعل التجلّد مثل حضورهن عدمٌ بعدم .

دون كيشوت : جِدْ لنفسكَ غير هذا الترياق ولا تكنْ مثل العنقاء الأهبل.

سانشو: العنقاء , لقد غاب اسمُ هذا الطير عن ذاكِرتي , ما قصتهُ يا سيدي الدون؟

دون كيشوت : هو طائر صُنعَ في مطابخ الأساطير , وكانت الغاية منه الضحك على الذقون.

سانشو: كيف يعني , أن يتزلج الضحكُ على الذقون حتى يقع فينكسر, أم إن وراء الأكمة ما وراءها ؟

دون كيشوت : ومن أين جئت بهذه ((الأكمة)) لتقذف عقلي بهذا اللغط اللغوي المبهم المجهول الذي لا أدركهُ ولا يدركني؟

سانشو: هذا هو الحبّ في مراتب الرومانسية العدمية , وهذا هو الرماد في مرحلة الانتحار الغرامي , أقصد أن يقوم هذا الطائر الأسطوري بتدوير الجثامين فيما بعد النيران.

دون كيشوت : اللعنة عليك يا سانشو , لقد أفقدتني عقلي ومزقت لي كامل أسلاك الجملة العصبية.

سانشو: لذلك علينا التبصر بالحروب التي لا تنضوي تحت حروب طواحين الهواء ومدى علاقتها بمعارك القلوب الهمجية الأكثر حَرقاً للأعصاب والأشدّ استنزافاً للغة )) .

أحدث المقالات

أحدث المقالات