في زاويا الولاية المنسية , غالباً ما يذوب الحاضر في ذاكرة الأزقة العتيقة , ففي كل مكانٍ تجد أثراً يروي آلاف الحكايا عن أولاءك الذين قادتهم الخطى للسير في طرقاتها دون ان يعلموا شيئاً عن النهايات التي تنتظرهم , بعضهم ترك ذاكرة المدينة تتحدث عنه , والبعض الآخر حملت أفواه ساكنيها أخباره في المجالس والمقاهي , والتي أرتادها لسماع ما يتناقله الناس من تلك الأخبار , ها أنا انصت الى نهايات دور التسليم لمقام الخلوتي ( الجهاركاه ) الذي يقرأه المتصوفة , نغم يسمى ( الركبانية ) , وعلى درجة القرار المنخفض , يكاد المؤدي أن يكلم نفسه وهو يردد (( أرد آخذك وأنهزم وأسكن بلاد الروم , مالوم منك يابعد رويحتي مالوم )) , ذلك هو عتب العاشق للمعشوق , وتلك هي الومضة التي تُحرر في قفص الكلمات , هذه الومضة القصيرة , كضوء في ليل طويل , تختزل عالماً من الدلالات في حيز ضيق من الكلمات .
ما زلت أغازل الشغف القديم للغة , لعلّي أستنشق من بين حروفها ظلّاً من ألأحلام الضائعة , فليست اللعبة أن تلامس ما تريد وجهًا لوجه , ولا أن تقف أمام المرآة منتظرًا أن تردّ لك الغياب بصورة , فأنت هناك في البعيد , تمارس طقوسك بصمت كما لو أنك تعانق الضباب برجاءٍ أن يثمر وجهًا في أقصى الأفق , لعلّ في الكلامِ مشقّة لا تحتملها النفوس , ولا تألفها الأرواح , لعلّ فيه خدشًا للحُب , والكرامة , والإباء , لما تعاتبنا غلب علينا الفضول , وربما الشغف , وربما لا , كلُّ ذلك كان بلا كلمات , وحين حان وقتُ الكلام ,صمتنا , كأنّه لم يُعجبنا الأمر , انتهت الحكاية , فعدنا إلى الصمت ,صمتًا , كما بدأنا , وكما نستحق.
في لحظة لا احد يستطع تفسيرها , فلا أحد يرى المزاج حين يقسو ولا أحد يسمعه حين يهمس , هو الذي يقرّر متى أكون أنا ومتى أكون ظلي , يا سلمى , يا سيّدةَ الشعرِ والنَّبضِ ووهجَ الحروفِ بعينِ الغضبْ , نسجتِ الوجعَ على ضوءِ روحٍ تُعانقُ في الأرضِ مجدَ الحَطَبْ , أنا لستُ غيرَ حروفٍ تهادتْ على شرفةِ الوجعِ المُلتَهِبْ , أنا ظلُّ محب يمرُّ الحنينُ بأوردتي , ويعودُ يَنسكِبْ , أنا نفْسُ سالكةٌ في الغيابِ تُرى حين تُفنى , وتخفى إذا اقتربتْ , أيا سلمى , والعشقُ مذهبي وفي الحبِّ وحدهُ قد عرفتُ النّسَبْ , وعندما تكون الكلمات بسيطة , لا تسأل كثيرا , لا تبوح بما يفوق حاجتها , لكن الكلمات تترك في حديثها فراغات ذكية , كأنها تدعوه لاكتشافها دون أن تعطيه خريطة.
كتب أنطون تشيخوف في رواية (( السيدة صاحبة الكلب )) : (( هناك حب لا يُنسى , يبقى متجذرًا في القلب حتى بعد أن يمضي كل شيء , تظن أنك تجاوزته , أنك تحررت منه , ثم فجأة , في لحظة عابرة , تسمع صوتًا يشبه صوته , أو تلمح شخصًا يحمل ملامحه , فترتجف روحك وكأنك التقيته من جديد , لكنك تعلم , في أعماقك , أن ما ضاع لا يعود , وأن بعض المشاعر تبقى حبيسة القلب , لا تبوح بها ولا تموت أبدًا , إنها تظل هناك , تنبض في صمت , كجمر تحت الرماد , تنتظر نسمة واحدة لتشتعل من جديد , فهل الحب الحقيقي هو الذي ينتهي , أم ذاك الذي يبقى , حتى لو لم يعد له وجود؟ )) .
يقول ميشال زيفاكو : (( الحب لا يعرف الألقاب ولا يخضع للتراتيب إنه تمرّد القلب على قوانين العالم )) , عندما قالت له غاضبة : ﺳﺄﻗﺘﻠﻚ ﺇﻥ ﻋﺮﻓﺖ ﺃﻧﺜﻰ ﻏﻴﺮﻱ , قال :الميت لا يموت الا مرّة وأحدة , فكيف تقتلين من مات فيكي عشقاً ؟ هل سمعتم عن غزل الفقهاء : (( كان عروة بن أُذينةَ زاهِدًا ورعٍا , وكثيرُ علم و فقيه , ومَعَ ذلكَ كَانَ رقيق الغزل كثيره , مِن جمِيل مَا قالْ : (( إذا وجَدْتُ أُوارَ الحبِّ في كبدي أقبلتُ نحو سقاء القوم أبتردُ ,
هبني بَرَدتُ ببرد الماءِ ظاهرَهُ فمن لِنَار ٍعلى الأحشاء تَتَّقِدُ؟ )) , الحب ليس في العثور على شخص تعيش معه , بل في العثور على شخص لا يمكنك تخيل الحياة دونه , لا تقع في الحُب إلا مع شخص يجنّ إن تخللت أصابعك بين أصابع غيره , يسأل عن أسباب الخدوش في أطرافك ويراها بمثابة علامات لأيام مرّت على قلبك , يلاحظ أبسط تفاصيلك تلك التي قد تظن أنها غير مهمة , لكنه يراها كل شيء,يعانقك عناق المكتفي بك عن جميع ما في الكون .
الْحبُّ مرضٌ خطيرٌ لَا يُصابُ بهِ إلَّا مَنْ فِي قلْبِهِ قبسٌ منْ نورٍ , وفي دعْوةُ الْحبِّ :
( اللَّهْ يَعْطِيكْ مَرْضْ الْقَيْسْ ) سمعْتُها تُكرارَا مراراً , دعْوةٌ غيْرُ مُسْتجابةٍ , لأنَّ كفّارَهَا كُثْرٌ, دعونا نأتي إلى الحب , ذاك الكائن الذي يتسلل إلينا من خارج المنطق , ويعطّل فينا أدوات التحليل , هو الفوضى الوحيدة التي يتساوى فيها الأميّ والعالِم , لا عجزًا فيهم , بل لأن المنطق لا حاجة له هناك , وانظر إلى لعبة العيون , حين يصنع الوهم ابتسامة , وتكون هناك خشية من الاقتراب كثيراً , فالقرب يكشف العيوب , والكشف يجلب الخذلان , وخشية من منح الثقة مرة أخرى , ولكن لابد من تجاوز هذا الخوف معه , والسَّهْمُ الذي اخْتَرَقَ القَلب لَمْ يُدْمِهِ , لَقَدْ مَلَأَهُ عِشْقًا , يريد ان يضمه كما يَضُمُّ شاعرٌ عَجُزَ بَيتٍ إلى صَدْرِهِ ,
فالحُبُّ هُوَ أنْ يَكُونَ قَلْبُ الحَبيب هُوَ خَرِيطَةَ الكَوْنِ , كالعِطْرِ مُدْهِش في حُضُورِه , هَشًّا في التلاشِي .
(( مسكون بالحب )) تعني possessed by love أو haunted by love باللغة الإنجليزية , يشير إلى الشعور القوي والمستمر بالحب , أو قد يكون تعبيرًا مجازيًا عن التأثير القوي للحب على الشخص , وفي الأدب , قد يشير (( مسكون بالحب )) إلى الشعور العميق والمتواصل بالحب , حيث يكون الشخص مغمورًا بمشاعر الحب لدرجة أنها تسيطر على تفكيره وسلوكه.