مقامة المجال الحيوي

مقامة المجال الحيوي

لازلت أتذكرفي عام 1970عندما كنا طلابا في كلية العلوم السياسية , شرح لنا الدكتور نزار الطبقجلي نظرية المجال الحيوي (Lebensraum) بأنه مصطلح ألماني يعني (( المساحة المعيشية )) أو (( حيز المعيشة)) , وقد ارتبط هذا المصطلح بسياسة التوسع الإقليمي التي تبنتها ألمانيا النازية , حيث سعت إلى الحصول على أراضٍ جديدة في أوروبا الشرقية لتوفير (( مساحة معيشية )) للشعب الألماني , وكان قد بدأ استخدام هذا المصطلح في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في سياق نظريات جغرافية واجتماعية مرتبطة بالداروينية الاجتماعية, وتم تعريف المجال الحيويّ بأنّه عبارة عن المساحة اللازمة لنموّ واستمرار الكائن الحيّ , وقد أصبح هذا المصطلح مُستخدمًا في جانب التخطيط السياسيّ والاستراتيجيّ في الجغرافيا السياسيّة الدوليّة , حيث اعتُبرت الدولة كائنًا حيّا وحدودها هي امتداد طبيعيّ لمصادر ثرواتها ومعابرها , ويمكن تعريف المجال الحيويّ كنظريةٍ سياسيةٍ بأنّه حاجة الدولة إلى مساحةٍ إضافيّة من الأراضي كلّما نمت أكثر, وبمعنى آخر فإنّ مفهوم المجال الحيوي هو تبرير لتوسّع الدول الكبرى على حساب الدول الأخرى لتأمين حاجات شعبها دون النظر إلى حاجات الشعوب في هذه الدول إلا بما يتناسب مع مصلحتها .

تقوم نظرية المجال الحيوي على فكرة أن الدولة , مثل الكائن الحي , تحتاج إلى التوسع والنمو في محيطها الجغرافي لتأمين مصالحها الاقتصادية والأمنية والثقافية , وقد استخدم هتلر هذا المفهوم لتبرير غزوه دول الجوار الأوروبي , مدعياً أن ألمانيا بحاجة إلى مساحة أكبر لاستيعاب شعبها المتنامي وتوفير الموارد التي تعزّز قوتها العالمية , هذا التبرير النظري سرعان ما تحوّل إلى أداة للهيمنة العسكرية وفرض الهيمنة القومية , وقد طرحت النازية الهتلرية هذه النظرية من خلال البروفسور كارل هاوسهوفر , وكانت فكرة توسعية اعتدائية رغم ما تنطوي عليه من أفكار اقتصادية , وتدعو الاجيال الألمانية للتوسع شرقاً , وقد وضع البروفسور لها خطط واستراتيجية تحت شعار(( الزحف نحو الشرق )) , وقد مثلت هذه الافكار التوسعية الإطار الفلسفي لتوسع النازية العدوانية وحروبها ليس في الشرق فحسب , بل في الشرق والغرب معاً , وجرت إلى كارثة الحرب العالمية الثانية وإلى دمار هائل في أوربا والعالم كلف البشرية نحو 100 مليون ضحية , وحجم خيالي من الخسار الاقتصادية وألآلآم الإنسانية .

تُعدّ نظرية المجال الحيوي من أكثر النظريات الجيوسياسية إثارة للجدل في التاريخ الحديث , لما حملته من تبرير مباشر للحروب والتوسع العسكري باسم الضرورات الاستراتيجية , وعندما اعتمدت ألمانيا النازية هذا الطرح , تبنته الولايات المتحدة انطلاقاً من (( مبدأ مونرو)) وصولاً إلى الرؤى الاستراتيجية لكيسنجر وبريجنسكي , كما تبنّت هذه النظرية قوى دولية وإقليمية عبر العصور المختلفة , واستمرت هذه النظرية بأشكال مختلفة لدى القوى العظمى مثل الاتحاد السوفياتي الذي استخدم الآيديولوجيا الشيوعية بصفتها أداة لتحقيق ما يُعرف بـ((المجال الحيوي الروسي)) , إذ لم تكن الشيوعية في نظر القيادة السوفياتية هدفاً بحد ذاتها , بل وسيلة لترسيخ الهيمنة الجيوسياسية على جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وبلدان أوروبا الشرقية , وكذا فعلت الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة , لقد استخدمت هذه الدول المفهوم ضمنياً لتبرير تدخلها في مناطق نفوذها المفترض , كما ظهر في التدخل السوفياتي في أفغانستان, والسياسات الأميركية في أميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا , وفي السياق العربي , شكّل الصراع العربي الإسرائيلي مثالاً واضحاً على توظيف مفاهيم المجال الحيوي , لا سيما بعد حرب 1967 , حين سيطرت إسرائيل على أراضٍ واسعة تحت ذريعة (( الحدود الآمنة )) , ثم أتت حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 لتعيد رسم هذا المجال من جديد , مع إدراك مصر وسوريا أهمية استعادة العمق الجغرافي بصفته جزءاً من استعادة القرار السياسي المستقل , هذه ألأمثلة توضح كيف يمكن للآيديولوجيا , سواء دينية أو سياسية , أن تُوظّف لتبرير سياسات توسعية أو استبدادية باسم مبادئ عامة .

في المرحلة المعاصرة , تُعد إيران من أبرز الدول التي تبنّت مفهوم المجال الحيوي , وإن بصيغة مذهبية-استراتيجية , تقوم على فكرة (( الهلال الشيعي )) الممتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق , ومنذ 2003 , بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين , بدأت إيران توسيع نفوذها في العراق سياسياً وأمنياً , ثم في سوريا عبر دعم النظام , وفي لبنان من خلال (( حزب الله )) , وفي اليمن عبر الحوثيين , لقد رأت طهران في هذه المناطق مجالاً حيوياً يضمن لها عمقاً استراتيجياً في مواجهة خصومها الإقليميين والدوليين , خصوصاً الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية , غير أن هذا التوسع الإيراني واجه منذ 2011 تحديات عميقة , فقد أدّت الثورة السورية إلى استنزاف موارد إيران , وتسبّبت في سقوط النظام السوري و انكشاف استراتيجيتها الإقليمية , كما أسهمت العقوبات الأميركية القصوى بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عام 2018 في إضعاف الاقتصاد الإيراني , مما أثّر بدوره في دعمها لحلفائها الإقليميين , ثم جاءت موجات الرفض الشعبي في العراق ولبنان ضد النفوذ الإيراني لتُظهر حدود هذا التمدد , خصوصاً حين أحرقت مقار الميليشيات المدعومة من طهران في مدن الجنوب العراقي , وهتف المحتجون في بيروت ضد (( الاحتلال الإيراني )) كل ذلك أدى إلى تراجع فعلي في قدرة طهران على الحفاظ على مجالها الحيوي بالوتيرة نفسها التي بدأتها بعد 2003.

من أبرز مظاهر الصراع على المجال الحيوي اليوم هو التصادم المباشر وغير المباشر بين إيران وإسرائيل , فالأخيرة ترى في النفوذ الإيراني تهديداً وجودياً وتسعى لتقليصه من خلال اسقاط النظام في سوريا والحرب على ايران وسلسلة الاغتيالات داخلها , في المقابل , استخدمت طهران الأراضي السورية واللبنانية والعراقية منصات للضغط والرد , هذه المواجهة عكست صراعاً بين مجالَيْن حيويَّيْن متناقضَيْن: واحد إيراني يمتد عبر المشرق العربي, وآخر إسرائيلي يسعى لخلق (( منطقة عازلة )) حول حدود الدولة العبرية.

تكمن الخلاصة في الدروس المستفادة وإشكالية الجغرافيا السياسية حيث يُظهر التاريخ أن تبني نظرية المجال الحيوي غالباً ما يقود إلى صراعات مدمرة , لأنه يقوم على منطق الإقصاء والتوسع بدلاً من التفاعل والتكامل , ورغم تغيّر الأدوات من الجيوش النظامية إلى حروب الوكالة , تبقى الفكرة المركزية واحدة : السيطرة على الجغرافيا بوصفها شرطاً للسيادة , لكن في عالم اليوم , أصبحت الشعوب والاقتصادات والمجتمعات أكثر وعياً بضرورة التعاون الإقليمي والاحترام المتبادل , ما يُحتّم على الدول مراجعة سياساتها التوسعية , وإلا فإنها ستواجه مقاومة داخلية وخارجية تُفرغ (( المجال الحيوي )) من مضمونه وتُحوّله إلى عبء استراتيجي بدلاً من كونه رصيداً للنفوذ.