النخبة المثقفة هي ركاز النقلة الحضارية , وما نمت أمة وازدهرت إلا بسبب من مثقفيها الذين يحملون شرف الكلمة , وصدق النيات , فإن انتكسوا ومالوا , تبعهم الناس من حيث يدرون ولا يدرون , فتكون خيانة العالِم أشد من خطأ الطبيب , فما خطأ الطبيب إلا نقطة في بحر , وحبة في رمل بإزاء خطأ العالِم , إذ يفسد العقول , ويلوث المفاهيم , ويحيد عن الطريق المستقيمة , لقد ابتلينا بأولئك المثقفين الذين اتخذوا من المصالح صنمًا لهم , فهم يعكفون عليه بكرة وأصيلاً , غير عابئين بأن المجتمعات في مسيس الحاجة إلى وعي اجتماعي , ووعي ينتشلهم من اللقب المخجل حين يوصمون بالعالم الثالث .
عبدالله بن المقفع صاحب (( ألف ليلة وليلة , وكليلة ودمنة , والأدب الكبير وكذا الصغير)) , كتب عن الأخلاق والقيم المثلى , بينما طريقة مقتله تبرهن أنه لم يستفد من علمه , وأن كتاباته لا تمثله , فهو زنديق أفسد الناس على رأي قاتله سفيان بن معاوية بن المهلب بن أبي صفرة , حيث كان أميرًا على البصرة , وكان كبير الأنف , فإذا دخل عليه ابن المقفع قال مسلمًا : السلام عليكما , يقصد سفيان وأنفه , ثم إنه عيّره بأمه بقوله : يا ابن المتغلمة , أي المرأة التي لا يكفيها رجل واحد شبقًا , فكان أن احتال عليه حتى قطّع أطرافه وهو ينظر ثم رماه في تنور محمر حرارة.
تطالعنا مقولة لينين الخالدة : (( المثقفون أقدر الناس على ارتكاب الخيانة , لأنهم الأقدر على تبريرها )) , التي تنطوي على مفارقة غريبة , وهي أن قائلها يعتبر من أهم مثقفي القرن العشرين وأغزرهم انتاجا فكريا , ثانيا أن الإشارة في المقولة تعلي من قيمة القدرة الكامنة على التبرير وليس من فعل الخيانة في حد ذاته , باعتبار أن محط النظر هو التبرير وليس الفعل رغم شناعته , هذه المقولة تستخدم الآن بشكل واسع لتجرم المثقف , وقد يدرج تحتها جريمتي الصمت والتواطؤ بالسكوت على الظلم رغم معرفته ومعرفة وسائل مقاومته وهنا يعتبر الساكت عن الحق شيطانا أخرسا , وأكثر شرا من الخائن الذي يتفنن في تبرير خيانته.
نقرأ كتاب جوليان بيندا (خيانة المثقفين) الذي يحدد فيه أنواع المثقفين بقوله إنهم أولئك الذين لا يسعون وراء المصالح والمكاسب , بل يجدون سعادتهم في ممارسة فن أو مزاولة علم أو البحث في نظريات ما وراء الطبيعة , ويلخص بيندا سعادتهم في الترفع عن ملذّات الحياة , ذاكرا أنه في أثناء مطالعته للتاريخ منذ أكثر من ألفي عام وحتى وقتنا هذا , وجد مجموعة متواصلة من الفلاسفة ورجال الدين والأدباء والفنانين والعلماء كان تأثيرهم وحياتهم في تعارض مباشر مع الغالبية العظمى من العامة , ويعترف بيندا أن واقعية البشر العاديين تدفعهم لارتكاب الشر باستمرار, ولكن طوال عمر البشرية لم يتحوّل الشر إلى خير برغم إصرار الإنسان على ارتكابه , وظل ضميره يؤنّبه كلّما ارتكب هذا الشر, كما أنه ظل محباً للخير حتى لو سلك ضدّه , لاسيّما بوجود الفئة المثقفة التي تقف حارسة على قيم الخير سواء بعدم مبالاتها بدوافع الشر ومكاسبه أو بالتصدي لمن يرتكب هذا الشر من دون البحث بذلك عن مكاسب دنيوية , وهذا التناقض هو الذي صنع الحضارة الإنسانية في نظر الكاتب , فعدم مس القيم من الناحية النظرية هو الذي يبقي على الحضارة الإنسانية حتى لو انتهكت فعلياً.
من الواجب ألا نعمم , فليس كل المثقفين تنطبق عليهم الأحكام ذاتها , فمنهم من بقي ثابتا ومُخلصا لمواقفه وقناعاته ومبادئه وللمجلات والجرائد التي يكتب فيها , وهؤلاء نكن لهم كل تقدير واحترام مهما كانت مواقفهم , لأن كل إنسان حرّ يحق له أن يعتنق ويؤمن بالأفكار التي يراها مناسبة , لكننا في المقابل لم يعد بإمكاننا تجاهل تذبذب الكثير من المثقفين وخاصة الذين يحتلون منابر ثقافية , أي تكون لهم زاوية أسبوعية وأحيانا يومية يخاطبون من خلالها الجمهور , ويعتقدون أنهم يضيئون أذهاننا بتحليلاتهم الفذة , أولئك الذين يقفزون من موقف إلى موقف نقيض , ولا يجدون حرجا ولا خجلا في تغيير أقوالهم وتحليلاتهم بحجة أنها متطلبات السياسة , فتجد أحدهم كان يغازل الإسلاميين ثم ينقلب عليهم شرّ انقلاب دون أن يشرح لنا الأسباب التي دفعته لهذا التحوّل , وآخر لم يجد مانعا لأن يكتب في ثلاث مواقع وصحف متباينة إن لم أقل متناقضة في توجهاتها السياسية والفكرية مقالات أسبوعية أشبه بالهلوسات والهذيانات , كل مقال يتناقض مع المقال الآخر, ولم يجد البعض أيّ حرج في تغيير المنبر الثقافي أو الزاوية الثقافية التي يكتبون فيها على مدى سنوات إلى الاتجاه المعاكس , وإلى جريدة تختلف جوهريا في توجهاتها عن الجريدة الأولى , وتأشر ايضا لغة الشتائم عالية المستوى التي كان يخاطب بها كاتب الزاوية المثقف الكاتب الآخر الذي قفز إلى الطرف الآخر , بعد أن كانا من أعز الأصدقاء وكوجهين لعملة واحدة , لكننا لسنا بحاجة إلى كثير من الفهم والذكاء لندرك ونفهم أن هؤلاء الكتاب لا تهمهم الشعوب العربية المُنتفضة من أجل الكرامة والحرية والعدالة , فكل ما يعنيهم هو المبلغ الذي يقبضونه ويسيل له اللعاب .
رحم الله صديقنا ورفيقنا كوان خلف درويش , الذي كان يخاطب من يقصر في السؤال والاهتمام : ((هواكم مو مثل الايام مجراه )) , ليردد بعدها كلام الشاعر الشعبي : (( محّد عملها وياي عملة رفيجي .. شرّبني سم عربيد وآنه على ريجي )) , أو (( لتكول الزمن غدار ويخون , زمانك ماغدر وانته أغدرتني , لجلك حاربت كل أهلي والكون كلت ماريد غيرك يل عفتني , ولا يحتاج أكلك طبعك أتخون تعرف نفسك أنته أشكد خنتني , حبيتك صدك حب طفل مجنون وانطيتك حياتي وموتتني )) .