17 أغسطس، 2025 12:45 ص

في مسرحية (( كاسك ياوطن )) ,  طلب المحقق بعد صد ورد بينه وبين ((غوار)) أن يتم وصله بالتيار الكهربائي , ليستجيب بشكل أسرع مع مجريات التحقيق , إلا أن ((غوار)) بدا متنعماً فرحاً بما شعر به , بل ارتفعت ضحكته مع ارتفاع شدة التيار, فقد كانت سعادته لا توصف كون أن الكهرباء وصلت (( لقفاه )) قبل ضيعته حسب وصفه, كما ضوى وجهه أيضاً , واكتشف أن الكهرباء (( بتكهرب )) , وتمنى لكل شخص أن يظفر بتلك التجربة.

)( سنجعل الكهرباء رخيصة جدا بحيث إن الأغنياء وحدهم من سيضيئون الشموع ((, تُنسب هذه المقولة الملهمة إلى توماس إديسون , مخترع المصباح الكهربائي الذي أضاء بمصباحه حياة البشرية وغير وجه العالم , كان إديسون يحلم بمستقبل تكون فيه الطاقة الكهربائية متاحة للجميع , وسهلة المنال , لدرجة أن استخدام الشموع سيصبح ترفاً لا يقوى عليه سوى الأثرياء , لكن , هل كان يدور في خلد إديسون أن اختراعه العظيم , الذي وُلد ليضيء , سيتحول في مكان ما وزمان ما إلى أداة تُستخدم لإطفاء الأمل ؟ هل تخيل أن السياسة , بقوتها المتسلطة , ستُدخل الكهرباء في متاهات الفساد والصفقات المشبوهة , لتصبح سلعة نادرة , وليست حقاً أساسياً من حقوق الإنسان ؟

تحولت مقولة إديسون في العراق بعد عام 2003  إلى سخرية مرة , فبدلاً من أن تكون الكهرباء رخيصة ومتاحة , أصبحت أزمة مزمنة تلاحق العراقيين في صيفهم الحارق وشتاءهم القارس , تحولت الأعمدة الكهربائية إلى رمز للفشل الإداري والفساد المستشري, الذي لا يتورع عن استغلال أبسط ضروريات الحياة لتحقيق مكاسب شخصية , لقد تحول حلم إديسون في العراق إلى كابوس , فعلى الرغم من المليارات التي أُنفقت على قطاع الطاقة , ما زال العراقيون يعانون من انقطاعات متكررة , ويضطرون للاعتماد على مولدات أهلية ترهق كاهلهم مادياً.

التطور سلاح ذو حدين دائما وابدا في حياة البشر , الحياة خلقتنا قوي وضعيف , قادر وعاجز, مستفيد ومستغل , هنا يتجلى الوجه الآخر للتطور الذي تحدثت عنه , فالتطور يمكنه أن ينير العالم , ويمكنه أيضاً أن يغدو سيفاً مسلطاً على رقاب الناس , تُستخدم من خلاله السلطة لا للارتقاء بالحياة , بل لاستغلالها والتحكم بها , وفي العراق , تجسد هذا السلاح في قطاع الكهرباء الذي كان من المفترض أن يكون مصدر قوة ونماء , فصار بؤرة للفساد وضعفاً ينخر في جسد الدولة , وفي ظل أزمة الكهرباء , نجد المستفيدين هم من يستغلون قوتهم السياسية لإبرام عقود فاسدة , ونجد الضعفاء هم المواطنون الذين يدفعون ثمن هذا الفساد من صحتهم وأموالهم وراحتهم , لقد أصبحنا كـ (( طيور النعام التي تحلم بالطيران ورأسها مدفون بالتراب )) , نعيش على وعود براقة بحل الأزمة , بينما الواقع يؤكد أن الظلام ليس مجرد انقطاع في التيار, بل هو انعكاس لظلمة أعمق وأكثر خطورة.

يجمع المراقبون ان الفساد هو العنصر السلبي للتطوروهو سارق النور في العراق , فلم تكن أزمة الكهرباء وليدة الصدفة , بل كانت نتيجة مباشرة للفساد الذي استشرى في قطاع الطاقة , لقد أنفقت منذ سقوط النظام السابق  مليارات الدولارات على مشاريع كهربائية لم تر النور أبداً , عقود فاسدة , صفقات وهمية , ومحطات توليد لم تعمل بكامل طاقتها , كل ذلك أدى إلى تدمير بنية تحتية كانت بحاجة ماسة إلى الإصلاح والتطوير, المفارقة تكمن في أن العراق , وهو من أغنى دول العالم بالنفط والغاز, ما زال عاجزاً عن توفير الكهرباء لمواطنيه , بينما تُصدر البلاد النفط يومياً بمليارات الدولارات, يضطر المواطن العراقي إلى دفع فاتورة شهرية باهظة لأصحاب المولدات الأهلية للحصول على بضع ساعات من الكهرباء , وأصبح الظلام حليفاً يومياً في حياة ملايين الأسر.

أزمة الكهرباء ليست مجرد انقطاع في التيار, بل هي انعكاس لظلمة أعمق وأكثر خطورة , فغياب الكهرباء له آثار مدمرة على حياة الناس , في الصيف , ومع درجات الحرارة التي تتجاوز الخمسين مئوية , يصبح غياب التكييف مأساة حقيقية , خاصة للأطفال وكبار السن والمرضى , المستشفيات تعاني , والمصانع تتوقف , والقطاع الخاص ينهار, والجانب الأبرز لهذه المأساة هو صعود اقتصاد الظلام , أو ما يُعرف بـ (( أصحاب المولدات )) , لقد تحول هؤلاء إلى بديل غير رسمي عن الدولة , يملكون شبكاتهم الخاصة ويفرضون رسوماً مرتفعة , مستغلين بذلك حاجة الناس الماسة للكهرباء , هذا الاقتصاد الموازي لا يمثل حلاً , بل هو جزء من المشكلة , فهو يثقل كاهل الأسر الفقيرة , ويُكرس حالة الفساد والإهمال.

أشارت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية إلى ما وصفته بالفساد المستشري في العراق , وقالت إن أهالي بلاد الرافدين يعانون جراء انقطاع شبه دائم للتيار الكهربائي , وأضافت أن الكهرباء التي تعد معيارا للتقدم في العالم باتت تخذل العراقيين وتدلل على فشل السياسيين أنفسهم في البلاد , وقالت نيويورك تايمز إن عبارة (( ماكو كهرباء )) باللهجة الشعبية العراقية أي (( لا توجد كهرباء )) باتت تتداول في شتى أنحاء العراق لترمز إلى (( اللعنة )) التي يعانيها أهالي البلاد على مدار سنوات مابعد الغزو العجاف , وقالت إن أحلام العراقيين بالحصول على التيار الكهربائي بالشكل المتواصل وعلى الخدمات وأساسيات الحياة الكريمة الأخرى تشبه إلى حد بعيد أحلامهم في الحصول على الديمقراطية , ولكن يبدو أنه لا الغزاة ولا السياسيون العراقيون المتنازعون استطاعوا تحقيق أحلام الشعب العراقي في كلتا الحالتين , وفي معرض احتجاجه على الأوضاع السائدة في البلاد , قال المواطن العراقي حسن شهاب إن (( السياسيين العراقيين يقتلون عنصر التفاؤل في أنفسنا )) , مضيفا أن (( الدكتاتورية تبقى أكثر رحمة فينا )) من غيرها.