28 نوفمبر، 2024 11:48 ص
Search
Close this search box.

مقامة الفراك

صبحنا صديقنا الثمانيني هذا اليوم على صفحته الفيسبوكية بهذه العبارة : ((حالة : اريد الموت انا ومااريد فركاهم )) , من الطبيعي أن يستوقفني هكذا نص , ولابد لي من محاكاته ضمن قراءة بسيطة , فما عسى ان أقول له ؟ غير عبارة جبران الخالدة : ((بين منطوق لم يُقصَد , ومقصود لم يُنطَق , تضيع الكثير من المحبة )) .

نقف عند رماد الحكاية , نقف عند حدود الحكاية , لنرقب الآتي قبل ان تهددنا موجة تسونامي الإزالة والموت , عند ذاك الحد بين شروقنا ومغيبنا تولد الحكايات , حيث
تحاكي الموجودات خالقها , فحينما تموت قصة حب , تبكي السماء , وحينما يفترق حبيبان , تتجهم الأشجار , وحينما يتخاصم عاشقان , يختفي الوجه المضي للقمر , ليس عندى أدنى شك أننا حين نمشي في جنازة حكاية عشق , تمشي معنا الزهور والبلابل وأمواج البحر, وقبور العشاق ليست قبوراً , هي حدائـق تغني بالذكريات , حولها الورود , وتغريد الطيور ينشد : هنا يرقد رجل ذاق الحب حتى الموت , وهنا بقايا امرأة عشقت دون أمل .

هوّن عليك عزيزي , فقبلك قال المتنبي : ((كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا )) , وكأنك مثله مخاطبًا النفس وتقول لها : كفاكِ أيتها النفس إذا وصلت بكِ الحال إلى تمني الموت فذلك هو غاية الشدة , وإن كان هنالك داءٌ لا شفاء منه سوى الموت فذلك غاية الشدة والبلاء , فهون عليك , ولا تنسى ان الموت وسط الأحبة نعاس .

لم يعد المعنى الوحيد للموت هو الرحيل عن هذه الحياة , فهناك من يمارس الموت بطرق مختلفة , ويعيش كل تفاصيل وتضاريس الموت , وهو ما زال على قيد الحياة , ولنأخذ درسا من دون كيشوت :

دون كيشوت: هل يجوزُ التّحَكّم بالقلوبِ عن بُعْدٍ يا سانشو؟

سانشو: ليسَ لديّ أدنى فِكْرة ولكن قد تكون الطائراتُ المُسيَّرة هي الحَلّ.

دون كيشوت : تعني أن يُطيّرَ العاشقُ قلبهُ فوق من يحبُ مثل كاميرة بهدف مراقبة مشاعره؟

سانشو: لا يا سيدي الدون , ما قَصدتهُ أن يدخلَ العاشقُ والمعشوقُ مرحلة القَصِف.

دون كيشوت : وماذا يبقى من الحبّ بعد القَصِف أيها الأَحْمَقُ ؟

سانشو: يبقى العدمُ الجميلُ يا سيدي الدون , ففي مراتبهِ تتجلّى الأرواحُ بالآثام اللَّذَّيذة العظيمة , وترتاحُ الأجسادُ من الكَساد وتَراكُم الثُلُوج.

دون كيشوت : أهذه هي الرومانسية العدمية التي وصلت سقفَها يا سانشو؟

سانشو: أجل يا سيدي الدون , فغياب بعض النساءات قد يصبح بفعل التجلّد مثل حضورهن عدمٌ بعدم .

 

جاء في الأخبار أن أمير المؤمنين (المأمون) في أحد مجالسه سأل القاضي يحيى بن أكثم ما العشق؟ فقال يحيى : سوانح تسنح للمرء , فيهيم بها قلبه , وتتواتر بها نفسه , فقال له : ثمامة: أمسك أيها القاضي رحمك الله إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاق , أو محرم صاد صيداً , وأما هذا فمن مسائلنا نحن , وللمعلومية فثمامة هذا كان سليط اللسان ومناظراً قوياً وأديباً بارعاً , وكان يمثل لوناً مميزاً من ألوان الاعتزال , فهو كثير التردد على قصور الخلفاء , يزين مجالسهم بالكلام العذب في أدب الأدب والمناظرة في مسائل معتزلة الاعتزال وغير الاعتزال , وقد مُلئت كتب الأدب بأحاديثه الممتعة ونوادره الطريفة , وصفه الشريف المرتضى فقال (كان واحد دهره في العلم وأدب الأدب , وكان جدلاً حاذقاً) , وقد تأثر الجاحظ به كثيراً في أسلوبه ومعانيه , عندها التفت المأمون إلى ثمامة قائلاً: هات ما لديك , فقال: العشق جليس ممتع , وأليف مؤنس , وصاحب مالك , ومالك قاهر, مسالكه لطيفة , ومذاهبه متضادة , وأحكامه جائرة , مالك الأبدان وأرواحها , والقلوب وخواطرها , والعيون ونواظرها , والنفوس وآراءها , وأعطي زمام طاعتها وقياد مملكتها توارى عن الأبصار مدخله , وغميض عن القلوب مسلكه, وأردف قائلاً: لم أرَ حقاً أشبه بباطل ولا باطلاً أشبه بحق من العشق , هزله جد وجده هزل , وأوله لعب وآخره عطب.

روى أهل السير أن الذين علق الحب قلوبهم فماتوا , أو جنوا , هم الذين لا يزيل صاحبه أبداً حتى يموت أو يهيم على وجهه , ويشهد بذلك قول المجنون : (( وعلقت ليلى وهي ذات موصد ولم يبد للأتراب من ثديها حجم , صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا صغيران لم نكبر ولم تكبر البهم )) , ومن قول جميل : (( علقت الهوى منها وليداً ولم يزل إلى الآن ينمو حبها ويزيد , وأفنيت عمري في انتظار نوالها وأفنيت بذاك العمر وهو جديد )) ,
وقد قال بعض الأطباء في صفة الحب : امتزاج الروح بالروح , ولو امتزج الماء بالماء لامتنع تخليص بعضه من بعض فكيف والروح ألطف امتزاجاً , وأرق مسلكاً ؟ وعندما سئل أعرابي عن الهوى قال : هو أغمض مسلكاً في القلب من الروح في الجسد , وأملك من النفس بالنفس , بطن وظهر, لطف وكشف , فامتنع عن وصفه المسلك والكمون .

 

أحدث المقالات