يهمس المندلاوي الجميل : ((مابين شوك وصبرخلصن سنين العمر )) , نص أستله من أغنية أستوطنت وجداننا فترة السبعينيات زهرة العمر الجميل ( يكولون غني بفرح ) للشاعر جبار الغزي , وهي اغنية أعتبرها من مثابات القلب , بل هي بيرق الأشواق في ميدان القلب , لها عدا ما فيها من حساسيات طربية وتعبيرية ذكريات جانبية تأبى ان تخبو,
ولكن مأساة شاعرنا الخائب انه أضاع البوصلة , وراح عبثا يفتش عن بهجة عند الناس القساة القلوب , فغرق بالاشجان الى رأسه حد الضياع , ما بين الشوارع والفنادق والحانات والمقاهي , والمفارقة ان هذا الوجع القاتل , هو فرحته القصوى.
الغريب أن هذه الأغنية , التي تجلب الكآبة والنكد لسامعيها , محبوبة ومطلوبة بكثرة من قبل أوساط واسعة من العرب , تقول الأغنية : (( احرگ خطوط العتب/ وانثرهه ويه الريح/ وانسى محاجي العشك/ يا بو شعر تسريح/ والعمر شمعة انطفت / وكل السوالف گضت )) , كان العاشقون ايام زمان , يتبادلون المكاتيب الورقية المعطرة , فهي رسل الغرام بين المحبين القدامى , وكانوا يسردون فيها الكثير من التفاصيل , ويبوحون بالاشواق الحارة , ويطيلون بتدوين الكلام الخفي وكثرة العتاب , وهنا الشاعر يأمر الحبيب بحرق الرسائل ونثرها مع الرياح العاوية , وهذا دليل الجفاء والخراب والنسيان , فالعمر تلاشى بلا معنى , وانتهت معه كل الحكايا السابقة .
(( الغناء حشيشتُنَا الْمُنْتقاةُ , رسائلنا الى مستوطني القلوب , سيّارةُ إسْعافٍ تُنْقذُنَا منَ السّكْتةِ الدّماغيّةِ وحسرة المستحيل , عصير القلوْبٍ التي تحبُّ الْحياةَ , الا ولّيْتُ وجْهِي صوْبَ الغناء لِأموتَ شعْراً , فلْنحب الغناء مَااسْتطعْنا, ونحن نعرف ان المغنون يتْبعُهُمُ الْغاوونَ , والمغنيات هنَّ الْغوايةُ )) , وفي بقايا الطريق يقل الرفاق , وكلما قلوا اكثر استقامت الخُطى , وخفَّ الاضطراب والغبار , وصار للغناء مع النفس حلاوة وبهجة , ترى هل جربتم صغارا تلك البهجة ؟ لقد كان الطريق موحشا بكم وسيظل كذلك بعدكم , فالوحشة لم تكن بسبب الرفقة إنما بسبب الطريق نفسه .
الى عهود قريبة كان العراقي في الريف او المدينة , في الحقل او الحانة , يدندن او يرفع عقيرته عاليا بالغناء اذا ما داهمته الوحدة او الوحشة , كنّا حين نعود من الحقول او البساتين فرادى وتعتم الدروب وتتصايح الثعالب والكلاب , ويلامس الخوف أعطافنا النحيلة الراعشة , نرفع عقيرتنا بالغناء لتفادي وحشة الخوف ,هكذا علمونا , اذا اوحشتك الدروب وكنت وحيدا فغن ِّ , ارفع الصوت بأقصى ما تستطيع وغن ِّلا شيء يطرد الخوف كالغناء , وإن خسرت فغن ِّ , لاشيء يعوض الخسارة غير الغناء , رغم ان هناك خسائر لاتحتاج لان تعوضها , فهي مجرد أعباء اثقلت كواهلنا بها سوء تصاريف الزمان .
تذكرت مأمون الشناوي , كان عاشقاً وشاعراً وكاتباً, وكان ابن مدينة , يعشق السهر ويكتب على إيقاع النيل , وكانت له حكايات في بؤس العاشقين وغوى العاشقات , أما الرحباني عاصي فكانت رئتاه ممتلئتين بنسائم القرى وأهازيجها , وتراثها الحافل بتسالي الحياة المعزولة في الجبال , والعباقرة لا يتشابهون وإن تجاوروا في الزمن والأمكنة , يطوي العبقري عصره تحت إبطه ويمضي به , لذلك نتطلع حولنا اليوم فلا شيء سوى مئوياتهم , وفي كل مئوية ألف عبقرية وجمال وخاتمة , لا مأمون الشناوي في مقهى الهيلتون يبكي أمام الرفاق لأن نجاة الصغيرة كذبت عليه , ولا عاصي الرحباني في مكتبه يكتب الشعر, أو الموسيقى , كمن يعد دفتراً مدرسياً , ولا صاحبنا الغزي ذلك الشاعر الضائع في دروب بغداد , والطير الاغريقي الذي لا يتحمل نسمة هواء تداعب ريشه كما يقول عن نفسه والذي تناساه عمدا او سهوا كل من له علاقة بالكلمة , ولم يعد يكشف عن رؤية تقترن بطبيعة الذات التي هي جزء من الذات الجمعي وتكوينها الفكري.
(( بسّك تره أتعدّيت حد الجفه أوياي
أعطش وأضوك الموت وبجفّك الماي
يكولون غني بفرح وانه الهموم غناي
بهيمة ازرعوني ومشوا.. شحوا علية الماي)) .