يصف صاحبنا الخبير الثمانيني حالة نمر بها كثيرا , (( ياللوعة , حين لا تكون قادرا على ترجمة ما تريد الى كلمات ففي الروح من الصقيع ما يجمد نظرات المارة)) , نتفهمه ونثني على بوحه , ونقول له بلسان أحمد شوقي (( أشباه عوادينا )) , فعندما يتعذر البوح , عندما تختبئ الأفكار وتتلاشى الكلمات , ففي تلك اللحظات بالذات , تتجمد نظرات المارة , يرون في الأعين شيئًا مبهمًا , صقيعًا يكسو الروح , فلا يستطيعون قراءة ما في القلوب , وهذا الصمت العميق قد يفصلنا عن العالم , ويزيد من الإحساس بالوحدة.

(( ‏يلوذ بالصمت , إن ضاق البيان به والروح إن تعبتْ , بالصمت تعتصم )) ,

(( ‏وَفِي القُلوبِ ضَجِيجٌ لَا نَبوحُ بهِ بَعضُ الكَلامِ بِقلبِ الحُرِّ مَوؤدُ )) , هذه الأبيات تصويرية بشكل مباشر لحالة الصقيع الذي يلف الروح , مما يجعل الآخرين (الناظرين) لا يستطيعون فهم ما يدور داخل الشخص أو التواصل معه , وكأن نظراتهم ترتد دون أن تفهم شيئًا.

الوحدة قاسية , وربما تصبح أقسى حين نصل إلى خريف العمر , هل تشعرون أحيانًا أن الكلمات تتجمد على أطراف شفاهكم؟ أن هناك صقيعًا يتراكم في الروح , يمنعكم من التعبير عما يجيش في صدوركم ؟ إنها لحظات مؤلمة , حين تتعثر المشاعر ولا تجد طريقها إلى النور, وحين تبقى الحكايات حبيسة الذاكرة , ويغدو الصمت رفيقًا ثقيلًا , ولإظهار صعوبة التعبير وتجمد الكلمات في النفس: (( إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ نُطْقًا بِمَا تَهْوَى فَفِي الْأَرْوَاحِ صَمْتٌ قَدْ يَرُوعُ )) , يعبر هذا البيت عن الألم عندما لا يستطيع المرء التعبير عما يحبه أو يريده , وكيف أن هذا الصمت في الروح يمكن أن يكون مخيفًا ومهيبًا , تمامًا كالصقيع الذي يجمد , ولوصف حالة العجز عن البوح والكمد الداخلي : (( وَمَا أَبْصَرَتْ عَيْنِي سُقَامًا مُبَرَّحًا كَكَمْدِ مُحِبٍّ لَا يَجِدُ مُتَكَلَّمَا )) , هنا يصف حالة الكمد الشديدة , وهي الحزن المكتوم الذي لا يجد له متنفسًا , هذا الحزن الداخلي يمكن أن يشبه الصقيع الذي يتراكم في الروح ويمنع البوح , مما يجعل نظرات الشخص تبدو مجمدة أو خالية من الحياة , وللتعبير عن الصمت الذي يلف الروح ويؤثر على التواصل : (( كَأَنَّ الرُّوحَ قَدْ لَفَّتْ صَقِيعًا فَمَا لِلنَّاظِرِينَ إِلَيْهِ عَوْدُ )) .

لكن تذكروا دائمًا أن هناك من يفهم , من يشعر بكم حتى وإن لم تتحدثوا , لا تدعوا الصقيع يتملك قلوبكم , ولا تدعوا الكلمات تتجمد , هناك من ينتظر أن تشاركوه همومكم وأفراحكم , أن تبوحوا بما في داخلكم , ابحثوا عن تلك الأيدي الدافئة التي تذيب الصقيع , وتفتح لكم طريقًا للتعبير عن أنفسكم , فكل كلمة تخرج من القلب , هي شمس تذيب جليد الوحدة , وتضيء دروب التواصل والمحبة.

(( أيّها الواقف متردّداً , اطرق الباب يُفتَح , وأسأل تُعْطَ )) , وكما تقول سوركول الجاف : ((نبقى نطارد الحلم بقصص الوانها متداخلة بين الصدق والخيال , بالوان الطيف النازل على كتف الغروب , على أمل الصحو في الشروق البديع , وألوجد لاتحده خرائط , ولا يوقفه الغرق في محيطات الشغف المرسوم على الذاكرة , وتلك الاقاويل يتداولها المتنبؤن بسحر الليل اكثر من غيرهم , أما نحن فهدفنا تلك الفراديس التي كتبت في القراطيس التي قرأناها عند الغروب )) .

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات