نشرت الست ولاء العاني قصيدة عبد الرزاق عبد الواحد الشهيرة ( ياصبر أيوب ) التي أجَّجَ فيها نار شعره الحماسي القومي وفيض عاطفته , وهو يعكس مكابدة العراق ومعاناته ويتلمس أوجاعه , عبر هذه الصورة الشاملة للعراق التي راح يستحضرها منتقلا من حالة إلى أخرى , مسجلا ما حل بالعراق من دمار , وقارئا آلامالعراقيين الذين تم تهجيرهم عنوة من غير أن يتخلى عن الأمل بالعودة إلى الوطن أو الحياة , وصبرهم , واستعرض عبدالواحد ما هدموا من العراق وما استفزوا من مَحارمهِ وما أجرموا , وما أبادوا فيه , وما قتلوا , رائيا أن العراق غُرَّةُ الأوطان أجمعِها وسيبقى , حتى وان تكالبت عليه الجيوش تحت بيارق الروم وسوى الروم .
لا أعرف بلدا ظل يضيع منذ محلمة كلكامش الى يومنا هذا مثل هذا العراق الحزين , الذي يبدو بعد رحيل شاعر العراق الأكبر عبدالرزاق عبد الواحد وكأنه يملأ الموت بالموت , والشعر بالأسى , والحسرة بالمزيد , والأيام تمضي , ومشاعر الفقد تبرد , إلا الخسارة والهزيمة التي نتكبدها مع هذا العراق , عراقٌ إن كان يصبر علينا ,فلكي نصبر عليه , فماذا لو بدت المرارةُ لفقده أشد؟ ولقد ذهب عبدالواحد صابرا , أخذ صبره معه ورحل , تاركا لنا أن نعيشه من دون قصيدة , ومن دون أمل , ترى هل كان الأمل وهما؟ هل اكتشف هزيمتنا فقرر أن يصمت ؟وكشف انه ما عاد ليكتب شعرا , انهارت عمارة الشعر ,مثلما انهارت عمارة الأمل في أن يعود العراق عراقا ,فسلام على العراق , وسلام عليه , وسلام على الباقين ,وسلام على صبرهم إذا صبروا .
أصبح الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في باحة الخلود , وقلنا له : (( وعدٌ لك يا أبا خالد أن يُقيم العراقيون لك نصبا في ساحة التحرير, وأن يلقوا عليه الزهور كل يوم ,لقد كان الأمل طاغيا بأن يوم التحرير قريب , ولعله ما يزال قريبا كلما بدا أبعد , كان شاعرنا يعرف أنه شَموخ ,كان يملؤه مجدُ القصيدة بالزهو , ولكن كان يملؤه العراق أكثر ,
وما من شاعر في كل تاريخ العراق تلبس بالعراق زهوا ورفعة مثلما فعل عبد الواحد , تلبس به , كان ثمة إلتباس حقيقي بينه وبين كل شيء في هذا العراق , لا تعرف وأنت تتحدث معه , إن كنت تخاطب شاعرا , أم أسطورة كُتبت على طين .
سيدي عبد الواحد , لا أعرف عن ماذا أعتذر , أعتذر لأني لم أواصل الرحلة النضالية من أجل عراق آخر , أعتذر عن موتك في الغربة , أعتذر عن عراق أورثك المرارة , أعتذر عن الدمع الذي كم كان يسهل أن يسيل على خديك وأنت تتحدث عن بغداد , أم أعتذر عن نُصب لم ننصبه بعد ,ولم نسوّره بعد بالزهور , فأقبل اعتذاراتي حتى آتي اليك , لأقبل رأسك ويديك وقدميك , ولأقبل زهو العراق فيك.
كان عبدالرزاق عبدالواحد يعيش في دمشق حزنا عميقا طويلا , يزفر من بعيدٍ حين ينظر كل يومٍ إلى ما يحصل في العراق , لقد جرحنا هذا العراق كثيرا , جرحنا شعبه ,مثلما جرحنا مناضلوه , ربما أكثر مما فعل كل الذين تولوا فساد السلطة بعد عام 2003 , لأنهم مسؤولون عن تبديد الرمق الأخير: الأمل , ذهبتَ جريحا , وظل الجرح ينزف , وظلت ( يا صبر أيوب ) مُعلقتنا , وما نزال نصبر على وطن ظل (( يمشي وحاديه يحدو وهو يحتملُ )) , وطن ظل (( مخزر الموت في جنبيه ينتشلُ )) , من كلكامش الى يومنا هذا , وما لنا غيره. ونردد ما كنت تقول, فلا هو (( ثوبٌ فنخلعه إن ضاق عنا , ولا دار فننتقلُ )) .
قرأ شاعرنا في يوم الشهيد مخاطبا نصبه :
(( الحبُّ حبُّ الذينَ استنفروا دَمَهمُ فابتلّتِ الارضُ ما ابتلَّتْ به الصُحُفُ
حبُّ الذينَ بلا صوتٍ , و لا عِظَةٍ ألقوا ودائِعَهم للارضِ و انصَرَفوا
الحبُّ حبُّ الذينَ الموتُ صالَ بِهِم و عندما قيلَ صولوا باسْمِهِ , نَكَفُوا )) .
كان خالدُ بنُ الوليدِ يقولُ : ((يا أهلَ الإسلامِ , إنَّ الصَّبرَ عِزٌّ , وإنَّ الفشَل عَجزٌ, وإنَّ مَعَ الصَّبرِ النَّصرَ )) , وقال الأحنَفُ أمير تميم : (( مَن لم يصبِرْ على كلمةٍ سَمِعَ كلماتٍ )) , وقال عَليُّ بنُ أبي طالبٍ: (ألا إنَّ الصَّبرَ مِنَ الإيمانِ بمَنزِلةِ الرَّأسِ مِنَ الجَسَدِ , فإذا قُطِعَ الرَّأسُ باد الجَسَدُ , ثُمَّ رَفعَ صَوتَه فقال: ألا إنَّه لا إيمانَ لمَن لا صَبرَ له )) , وقال : ( (الصَّبرُ مَطِيَّةٌ لا تكبو , والقناعةُ سَيفٌ لا ينبو )) .وقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ : ((إنَّ أفضَل عَيشٍ أدرَكناه بالصَّبرِ, ولو أنَّ الصَّبرَ كان مِنَ الرِّجالِ كان كريمًا)) , وقد أبدع المتنبي حيث قال :((كالخيلِ يمنعُنا الشّمُوخُ شِكايةً و تئِنُ من خلفِ الضلوعِ جروح
كم دمعةٍ لم تدرِ عنها أعينٌ و نزيفها شهدتْ عليهِ الروح ُ)) , ويقول عريان السيد خلف : (( لاعاد الصبر يلجم مصب العين ولامثل الخلك بدموعنه نمثل
طالت والعمر كلما تلف بي يطول غم ذاك العمر من ينكظي تعلعل )) .