مقامة الشيطان يكمن في التفاصيل

مقامة الشيطان يكمن في التفاصيل

يقول أحمد خالد توفيق : (( مُشكلتي ياصديقي هي التفاصيل , أنا لا أُجيد تجاهل التفاصيل , كلمة واحدة في حديثٍ طويل تجعلني حزيناً , التفاصيل الصغيرة التي أراها و أتذكرها و أتمعنها تقتلني بوحشيّة )) , للأسف حقيقية متعبة , وآفة تتلف الروح وتجعل الجسد مسكونا بالهواجس , ((الشيطان يكمن في التفاصيل ((The devil is in the details  , عبارةٌ تُشير إلى خدعةٍ أو عنصرٍ غامضٍ مخفيٍّ في التفاصيل , وتشير إلى أن الأمر قد يبدو بسيطًا , لكن في الواقع التفاصيل مُعقّدةٌ ومن المُحتمل أن تُسبّب مشاكل , وهناك من يقول God is in the details الله في التفاصيل , وهي مقولة معاكسة تؤكد على أهمية التفاصيل في تحقيق الكمال والجودة , وغالبًا ما تُستخدم في سياقات إيجابية .

هناك مصطلح لاتيني أكثر شيوعًا للتعبير عن هذا المعنى هو : (( Diabolus in machina est )) , مرتبط بمفهوم أن الأخطاء والمشاكل غالبًا ما تكمن في التفاصيل الصغيرة التي يتم تجاهلها , وهذه العبارة تعني حرفيا : (( الشيطان في الآلة )) , وعلى الرغم من أنها ليست ترجمة حرفية للمقولة الإنجليزية ((The devil is in the details )) , إلا أنها تحمل معنى مشابهًا جدًا , ففكرة  (( الشيطان في الآلة )) , تشير إلى أن المشكلة أو الخلل يكمن في جزء صغير أو تفصيلة دقيقة داخل نظام أو عملية ما , وقد لا يكون واضحًا للوهلة الأولى , لذا , يمكن اعتبار المصطلح اللاتيني يعبر عن نفس فكرة أن المشاكل غالبًا ما تختبئ في التفاصيل.

يقول المعمارى الألمانى ( لودويج ميز) المولود فى القرن التاسع عشر: (( إن الله يكمن فى التفاصيل )) , وقد سبقه إلى هذا المعنى الروائى الفرنسى (( جوستاف فلوبرت )) الذى ولد قبل ( ميز) بنحو 65 عاما , تحولت العبارة فى استخدامات علوم إنسانية حديثة مثل الاقتصاد والعلوم السياسية والإدارة إلى مقولة : (( إن الشيطان يكمن فى التفاصيل )) وعلى أى حال فمقصود العبارتين واحد , وهو أن كثيرا من الأمور تبدو سهلة ومباشرة حتى تتبين التفاصيل , فالله فى التفاصيل دلالة على الإلمام والإحاطة وحسن التقدير , والشيطان بدوره فيها دلالة على التربص ووضع العقبات والعراقيل, وإنك لتقتحم التفاصيل كل يوم حتى تصيب بعلمك وعملك شيئا يسيرا من أحلامك وأمانيك.

إذا أعمتك نجاحاتك الصغيرة فى تجاوز العقبات الروتينية عن إدراك موقعك الحقيقى من الإنجاز , فقد وقعت فى فخ التفاصيل , وإذا ظننت أن جميع الأزمات يمكن حلها برسم خط مستقيم بين نقطتين , فأنت واهم , ولا تعرف شيئا عن شيطان التفاصيل , خيط رفيع فقط يفصل بين هذا وذاك , لقد أهمل الدبلوماسيون العرب التدقيق قي قرار مجلس الأمن (( 242 )) الصادر بعد معركة حزيران 1967 , ولم ينتبهوا الى ضرورة تطابق النصين العربي والأنكليزي للقرار , حيث أن الأمم المتحدة تأخذ بالنص الأنكليزي في حال ألأختلاف بالترجمة بين النصوص , وفي حين ورد النص العربي : (( ألانسحاب الفوري للقوات الأسرائيلية من ألأراضي العربية المحتلة بعد الرابع من حزيران 1967)) , ذكر النص الأنكليزي : ((Immediate Israel forces withdrawal from Arab occupied lands after the fourth June 1967))  , وحاجج الوفد الصهيوني حينها ان الأنسحاب من أراض عربية Arab lands , كما وردت بالنص الأنكليزي , وليست ألأراضي العربية The Arab lands  .

في عالمنا المعاصر, الذي يتسم بالتعقيد والتداخل في كل شيء , تزداد أهمية مقولة (( الشيطان يكمن في التفاصيل )) بشكل ملحوظ , فهي حكمة عميقة تتجاوز معناها الحرفي لتلامس جوهر الكثير من جوانب حياتنا , إنها تحذير من مغبة إهمال الجوانب الصغيرة والدقيقة في أي مسعى , مؤكدة على أن الإغفال اليسير قد ينقلب إلى كارثة عظيمة , وأن النجاح الحقيقي غالبًا ما يتوارى خلف ستار من الاهتمام الدقيق بكل جزئية , وسواء كنا نتحدث عن مشروع تجاري ضخم , أو تصميم هندسي دقيق , أو حتى علاقة إنسانية عميقة , فإن التفاصيل الصغيرة هي اللبنات الأساسية التي تحدد جودة البناء ومتانته , وقد يبدو التركيز على هذه التفاصيل مضيعة للوقت أو ضربًا من ضروب الوسوسة , لكن التجربة تثبت مرارًا وتكرارًا أن إهمالها هو الباب الخلفي الذي يتسلل منه الفشل.

هناك أبيات شعرية عربية تحمل معاني قريبة من مقولة (( الشيطان يكمن في التفاصيل )) , وإن لم تستخدم هذا التعبير الحرفي , وغالبًا ما تتناول هذه الأبيات أهمية الدقة , والحذر من الإهمال , والتأثير الكبير للأمور الصغيرة , فمن قصيدة (( لا تشتكِ )) لإيليا أبو ماضي : (( كنوز الأرض لا تغنيكَ نفعًا إذا أنتَ لم تكنْ نفسًا قنوعا أتُحسبُ أنَّكَ بالجُهدِ تُدرِكُ مَا تَبغي إذا أغفلتَ اليسيرا؟ )) , وهناك بيت من الشعر العربي القديم (غير محدد القائل بدقة) : (( صغيرُ الجُرمِ يأتي بالعظيمِ كما النارُ العظيمةُ من شَرَرِ )) , وهذا البيت يوضح كيف أن أمرًا صغيرًا أو تفصيلة دقيقة (مثل الشرارة) يمكن أن يؤدي إلى نتيجة عظيمة أو كارثة كبيرة (مثل الحريق) , وهذا يتماشى مع فكرة أن التفاصيل الصغيرة قد تحمل في طياتها عواقب وخيمة , (( وفي دقيقِ الصنعِ سرُّ البقاءِ فلا تحسبْ صغيرَ الأمرِ هباءُ )) , هذا البيت يؤكد على أن سر الاستمرار والنجاح يكمن في دقة الصنع والاهتمام بالتفاصيل , محذرًا من الاستهانة بالأمور الصغيرة.