16 فبراير، 2025 12:22 ص

الف الجاحظ كتاب ((أخلاق الشطار)) , شرح فيه فترة العيارين والشطار , وكيف كان لصوص بغداد في العصر العباسي حكماء وفلاسفة , وان العهد بينهم عهد شرف , ومن شربوا ماء من بيته أو ألقوا عليه السلام و ردعليهم , فلا يحق لهم أن يسرقوه أو يؤذوه , وان ابن حمدي العيّار لا يسرق أصحاب البضائع الصغيرة التي تكون قيمتها دون الألف درهم , وكان لصهم يسرق نصف ما يملك الرجل , ويحفظ أحاديث مروية عن كبار الأئمة , ولصا يسأل تاجراً عن مسائل في الزكاة , وآخر يحفظ أحوال اللصوص منذ النبوة الى عهد العباسيين , والأعجب ما فعله أبو الهيثم الطرار الذي جلد ثمانية عشرة ألف جلدة ولم يعترف , حتى قيل أنه لو ادعى أحد العيارين النبوة لكانت معجزته تحمل وجع السياط , الذي أمسك بثوب الإمام بن حنبل , ويقول له تحملتها في سبيل الدنيا وغواية الشيطان فاصبر يا إمام على ما ابتليت طاعة للرحمن , ليدعو بن حنبل له بعدها , وإذا نظرنا عن يميننا أو شمالنا فهل نجد بين عيارين جلدتنا بن عسقلة أو أبو الهيثم أو عثمان الخياط وغيرهم ؟

لو نظرنا إلى العساقلة الجدد , لوجدنا الحال غير الحال, فمن مريدين عرايا لا تسترهم إلى الخرق البالية , الى أثمن ما حاكته أيدي المهرة , ولوجدناهم يخونون العهود وينقلبون على بعضهم , وتحولوا من تنظيم يعمل تحت مواثيق وعهود , الى جماعات وأفراد أغاروا وتغولوا على المال والعرض والشرف , وخانوا الأمانة والميثاق , وأحلوا الدماء في سبيل الدينار والدرهم وكل ما يلمع في نظرهم ذهب , فهم غربان تُغير على كل شيء , ولا تجد في وجوههم حياء يذكر.

يعتبر صعاليك الجاهلية السابقة افضل من ادعياء التدين اليوم , والسبب لأمتلاكهم ضمير في حين ان صعاليك اليوم ضميرهم غائبا تماما , وبعضهم لو اتيحت لهم فرصة يسرقون اكفان الاموات , وأصبح عندنا سياسيين و رؤساء برتبة صعاليك , حتى صعاليك زمان كانوا رجالا لايتخلوا عن كل المباديء , ويُحكى أنّ كبير اللصوص في العصر العبّاسي أدهم بن عسقلة , الذي عُرف بخفّته في السرقة وبطرق مختلفة شكّلت مسارًا لمن اتّبعه من اللصوص المارقين والخارجين على القانون , وانه ترك وصيّة لأتباعه اللصوص قبل وفاته يحضّهم فيها على التمتّع بالأخلاق الحميدة وهم يسرقون , فجاء في الوصية , أن (( لا تسرقوا امرأة ولا جاراً ولا فقيراً ولا نبيلاً , وإذا غدر بكم قوم فلا تغدروا بهم وإذا سرقتم بيتاً , فاسرقوا نصفه , واتركوا الآخر ليعتاش عليه أهله ولا تكونوا من الأنذال )) , أمّا شيخ اللصوص وخطيبهم عثمان الخيّاط , فقال: (( ما سرقت جاراً قط ولو كان عدواً , ولا سرقت كريماً وأنا أعرفه , ولا خنت مَن خانني , ولا كافأت غدراً بغدر )) , وكان يُرشد أصحابه , واضعاً أسساً أخلاقية يسير عليها كل فرد منهم , بقوله : (( اضمنوا لي ثلاثاً أضمن لكم السلامة , لا تسرقوا الجيران , واتقوا الحُرُم , ولا تكونوا أكثر من شريك مناصف , وإن كنتم بما في أيديهم أولى لكذبهم وغشّهم وتركهم إخراج الزكاة وجحودهم الودائع , والأهم من هذا كلّه لا تهتكوا ستر امرأة )) , وأكثر من هذا فقد كان يعاقب الذين لا ينصاعون لمبادئ اللصوص الشرفاء ومواثيق الشرف، ويعدّهم مجرمين .

أي أخلاق هذه التي تحلّى بها هذان العظيمان ؟ أين منهما اللصوص في عالمنا العربي الذين يتولّون أمور البلاد والعباد , والذين سرقوا الجار والدار والكبير والصغير والغني والفقير والكريم واللئيم , وخانوا من أخلصوا لهم , وكافأوا الوفاء بالغدر, ولم يتّقوا الحُرُم وهتكوا كلّ ستر , وأين مَن يعتبرون أنفسهم رجال حكم من هذين الرجلين ؟ وهم لا رجال ولا أشباه رجال ؟ كيف يُعقَل أن تستمرّ الحياة بهم ومعهم , وهم متربّعون على عروشهم لا يتزحزحون ؟ وكيف يمكن أن تستمرّ وهم يستولون على كل شيء بجميع الوسائل ولا يتركون حتى الفتات للشعب , ويطلبون منه أن يصبر ويصابر وأن يحاول العيش من دون أدنى مقوّمات الحياة ؟

لقد وضع كبير اللصوص أدهم بن عسقلة , وشيخهم عثمان الخياط أسساً شريفة ومبادئ ومواثيق للصوصية , ولكن من أتى بعدهما خانوا وصيتيهما ولم يسيرا على نهجيهما , فأصبحت السرقة فعلاً قبيحاً شنيعاً , واتّخذت بلادنا موطناً لها واستقرّت فيه , و في بلاد العرب كثيرون الذين يشبهون كبير اللصوص أدهم بن عسقلة وشيخهم عثمان الخياط , ولكنهم لا يتمتّعون بأخلاقهما , رغم أن بينهم العجيب والنجيب والنسيب , والنزيه والنبيه والفقيه , والحسن والأحسن , والوحيد والفريد والوليد , ووجه السعد رغم البعد , والحامي والسامي , والسمير والنديم والعفيف والعنيف , هؤلاء كلهم وأتباعهم ومَن والاهُم كانوا السبب في جعلنا نعاني الأمرّين في كل وقت وكل حين.

رحمكما الله يا أدهم ابن عسقلة ويا عثمان الخياط , لقد خذلكما اللصوص بعد الألفية الميلادية الثانية , فاتخذوا من الورع والتقوى سبيلاً ومنهجاً للنهب والسلب والاستحواذ على الكنوز والبنوك والثروات , وضربوا بعرض الحائط وصيتكما الرائعة , فانقلبت الأمور في زماننا رأساً على عقب , فالغاية عندهم تبرر الوسيلة , في أيامكما كان العهد بين اللصوص عهد شرف , فكانوا يأخذون من الغني المكتنز, ومن البخيل الممتنع عن أداء الزكاة , وساروا على نهجكما ووصيتكما ,اما في عصرنا الحالي , فقد اختلط الحابل بالنابل , وظهرت علينا حيتان مخيفة من المافيات والعصابات وتجار الأزمات , وظهر علينا في الوقت نفسه بعض المسؤولين والنواب بتصريحات وبيانات زاعمين فيها الذود عن المال العام من دون إتخاذ أي إجراءات عملية تقطع دابر السرقات المليارية , فعلى الرغم من تكرار تصريحاتهم الحماسية المتوالية , لم نر أي تحسن على أرض الواقع , والمحزن بالأمر ان بعض اللصوص ارتكبوا جرائمهم وهم يتمتعون بدعم غير محدود من جهات سياسية متنفذة , فنهبوا أموالنا وعقاراتنا وممتلكاتنا من دون ان يرف لهم جفن , فكان حاميها حراميها .