يتشكى صاحبي الثمانيني الذي كان مثل كثيرين من أهل جيله يسارياً في شبابه , ومنتقداً لليسار بعد سن الكهولة, من ملوعته الشاعرة , ويقول أنها لم ترد على معايدته , يردد بيت أبي الطيب : (( وَكَمْ ذَنْبٍ مُولِّدُهُ دَلَالٌ ….وَكَمْ بُعْدٍ مُولِّدُهُ اقتِرَابُ )) , وهكذا هو الوهم عندما يتغلب على وعي البشر , يمتلكه ويسخره لغاياته القاسية المروعة , ولكل وهم أدواته , وصاحب الوهم قد يكون مجرما , أو عاشقا مفتونا بأوهامه الملونة والمتلآلئة في فضاءات ما يرى ويحس , بحكم أن الأوهام بأنواعها لذيذة , وتستلب الألباب , وتسخر المبتلين بها للعمل بموجبها , وعندما نسأله لم هو مغمض العينين يقول : حتى تراني , فياهذه أمنحيه بركة القدوم وسيرتمي حيث عطرك يملكهويتيح له رؤية النجوم .
يقولون حين تغيب الفراشات, أنثر أثرك على المكان , كي تعود ثملة بك , ولئن سألوك عن اسمك , قبل أن تحلق في أقاصيها , فقل أنك قد نسيته , ماذا تفعلُ الشاعرةُ بالعيد ؟ تُلبسُ القصيدةَ فستانًا من نقطتين , وفاصلة , وتعلّقُ في أُذنِها قافيةً رنّانة , ربما لهذا لم تسمع معايدتك , وقد تكون منشغلة تُحاولُ أن تخبزَ كعكًا من المجاز , لكنّ الفرنَ يُحرقُ الصورَ التشبيهية , فتأنى وتعلم قواعد التعامل : كَانَ عمرُ بنُ الخطَّابِ , يولِي عبدَ الله بنَ عباس اهتماماً ويُقَرِّبُه لعلمِه , فقَالَ الْعَبَّاسُ لابنِه ناصِحاً : (( يَا بُني إِنِّي أرى هَذَا الرجلَ يُدنيك وَإِنِّي مُوصِيكَ بخلالٍ : لَا تفشينَّ لَهُ سرّاً , ولا تخوننَّ لَهُ عهدًا , وَلَا تغتابَنَّ عِنْده أحداً , وَلَا تطوِي عَنهُ نصيحةً )) , أهدَى العباسُ ابنَه قواعدَ التَّعاملِ مع القرب من دون تجاوزِ حدٍّ يُوَلِّد من القربِ بُعداً , فهلا تعلمت ؟
تتهيب منها الحروف , وتتجمل لها اللغة , ويزهو بها البيان , وأنت نذرت عمرك لفكّ أسرارها وتجلية جمالها , في لحظات لا تُنسى , فهي تخوض بحرٍعلم لا ساحل له , ولا توقفه سوى علّامة البيان , لحظات تفيضك فخرًا , وتُخلَّد في الذاكرة , كيف لا وقد عشقت من قالت : (( ألبيان روح اللغة , ومن أراد إدراك جمالها فليغص في أسرارها )) , لله درّها , وما أبهى الحرف حين ينطقه أهلُه , يقول جوزيه ساراماغو : (( لا ينضج المرء بالنصائح , لاينضج بالمواعظ , لاينضج بتجارب الأخرين , ينضج المرء حين يقطع الفقدان جزءًا من قلبه , وينحني ظهره من خذلان أحبائه , وتتسيد التجاعيد ملامحه من قسوة التفكير , وتتهاوى طاقته ويصبح هش بجسد هزيل من الركض في الطرق الخاطئة , ينضج المرء حين تقتطفه الحياة من جذوره )) , فمتى تنضج ؟
لا ترد عليك بالطبع , فهي مشغولة تُرسلُ بطاقاتِ تهنئةٍ ممهورةً ببصمةِ إصبعِ حلمٍ كان ساهرًا معها ليلةَ العيد , وتُعطي العيديةَ للقصائدِ الصغيرة : وتنصحهم (( خُذوا وزنًا خفيفًا , واحذروا الزحافَ في الأزقّة )) , وانت تعرف ان أهل مكة أدرى بشعابها , وأهل الصحراء عيونهم أكثر صفاء , فهم قوم يميّزون دوماً بين السراب والماء , ويدركون ان الربيع الذي لم تبلِلهم قبله رطوبة الشتاء , ليس ربيعهم , و الأرواح حين تحب لا تملك حق الإختيار , فدعك من اللوم , فشاعرتنا تُفكّرُ : هل تضعُ الشَعرَ على وزنِ الرمل؟ أم تُطرّزُه على البحرِ الكامل؟
تمامًا كما تُوَجِّهُ الوردةُ نفسَهَا نحوَ الشّمس , وَجِّه روحَكَ نحوَ خالقها , ومثلما النخلةُ لا تُثمر إلا إذا عانقتِ الشمسَ , كذلك القلبُ لا يُورق إلا إذا مسّته خُضرةُ السلام وأكسجينُ الحبّ , ألا انها تتحسس من الرجل لأنها تراه واجهة لـ(( مشروع هوياتي مناوئ )) , وقد يكون هذا حقها , فألتمس العذر لها , ففي لحظةِ العصفِ الذّهني , تشتبكُ الجُمَلُ كالجُنودِ , كلُّ كلمةٍ تريدُ أن تقودَ قصيدَتها , وخذ بالك , فاليأس أحدى الراحتين , والراحة الأخرى الموت , والشيطان يكمن في كيفية توظيف المعلومات لقصيدتها , وليس في مدى صحتها , فدعها تُزيّنُ مرآةَ اللغةِ بأشرطةِ ضحكٍ استعاري , وتُقلّبُ فنجانَ قهوتها : (( هُنا حرفٌ عاشق , وهُناكَ نقطةٌ تهربُ من آخرِ السطر)) .
كتب بيكيت : (( النور الساطع ليس ضروريا , شمعة صغيرة هي كل ما يحتاجه الإنسان ليعيش في غربة , إذا أحترقت بإخلاص )) , وهي مطمئنة , عندما تكون اَلْكَلِمَاتُ مَادَّةٌ لَيِّنَةٌ فِي يَدِها , تعِيدُ تَشْكِيلَهَا حَتَّى تَنْبِضَ بِالْحَيَاة , وكَمَا يَعْكِسُ الْمَاءُ وَجْهَ الشَّاعِرة تَعْكِسُ الْقَصِيدَةُ رُوحَها , وحُروف ملهمتك سنابلُ , بماءِ الدَّهشةِ تعجنُها , فتصنعُ منها قصائدَ قصائد , تُشْبعُ الجياعَ إلى الكلمةِ العذبة , لقد كتب ليوناردو دافنشي عبقري الفنون الكلاسيكية ذات مرة: (( الجسد الجميل يفنى , لكن العمل الفني الجميل لا يموت )) , وفي المساءِ, دعها تُهدهدُ العيدَ نفسهُ , وتهمسُ له : (( كُن خفيفَ الوطءِ على القصيدة , فهي تتدلّى من بلّورةِ وزنٍ قد تنكسرُ من كثرةِ الأماني )) .