مقامة الدونكيشوتية

مقامة الدونكيشوتية

(( دون كيشوت: ألا تظنُ إن المرءَ , متى ما أصبح طيراً سيرتاحُ يا سانشو ؟

سانشو: وكيف يرتاحُ طيرٌ , وكلُّ البنادق مُصوِّبة عليه يا سيدي الدون؟))

تقول وكالة رويترز ان روائع الأدب العالمي أربع : (( الإلياذة )) لهوميروس , و((الكوميديا الإلهية )) لدانتي , و(( دون كيشوت ))  لسرفانتس , و(( فاوست )) لغوته , كذلك قال عبدالرحمن بدوي في تصديره لترجمة الطبعة العربية للرواية , وفي الواقع فإن بدوي لم يخطئ في وضع دون كيشوت ضمن مصاف روائع الأدب العالمي , حيث تثبت الرواية بعد أربعة قرون من إنتاجها أنها لا تزال غنية وثرية , وقادرة على الانفتاح أمام تأويلات عصرية وراهنة , وليس أدل على ذلك من حرص النقاد والفلاسفة والمؤرخين على دراستها حتى يومنا هذا .

(( دون كيشوت : انظر يا سانشو, أولئك العمالقة الأشرار, هيا بنا نهاجمهم   , سانشو: يا سيدي , إنها مجرد طواحين هواء , دون كيشوت: أنت مخطئ يا سانشو, إنهم عمالقة , وسأهزمهم وأحقق المجد )) .

رواية دون كيشوت هي عمل أدبي كلاسيكي , تحمل في طياتها العديد من الرسائل والقيم الإنسانية الخالدة , منها أهمية الأحلام والطموح ,  فعلى الرغم من أن دون كيشوت يبدو مجنونًا في سعيه لتحقيق أحلامه , إلا أن الرواية تظهر أهمية الحفاظ على الأحلام والطموحات , حتى وإن كانت تبدو مستحيلة , وتشجع الرواية على السعي وراء المثل العليا والقيم النبيلة , وعدم الاستسلام للواقعية المفرطة , وتتناول الرواية الصراع بين الواقع والخيال , وكيف يمكن أن يؤدي الخيال الجامح إلى الانفصال عن الواقع , لكنها في الوقت نفسه , تظهر أن الخيال يمكن أن يكون مصدرًا للإلهام والإبداع , وتجسد شخصية سانشو قيمة الصداقة والوفاء , حيث يظل مخلصًا لدون كيشوت رغم جنونه , وتؤكد الرواية على أهمية العلاقات الإنسانية الصادقة في مواجهة صعوبات الحياة , كما أنها تستخدم السخرية لانتقاد المجتمع الإسباني في القرن السابع عشر, وكشف عيوبه وتناقضاته , وتسخر من القيم الزائفة والتقاليد البالية , وتدعو إلى التفكير النقدي , ويسعى دون كيشوت إلى تحقيق العدالة ونصرة المظلومين , حتى وإن كانت طريقته في ذلك غير واقعية , وتعكس الرواية الرغبة الإنسانية في تحقيق العدالة والمساواة , وتؤكد على مجموعة من القيم الإنسانية النبيلة , مثل الشجاعة , والكرم , والشهامة , وتشجع على التمسك بهذه القيم في مواجهة تحديات الحياة ,باختصار, رواية دون كيشوت عمل أدبي غني بالمعاني والقيم الإنسانية , يدعو إلى التفكير في طبيعة الواقع والخيال , وأهمية الأحلام والطموحات , وقيمة الصداقة والوفاء, والسعي نحو العدالة.

(( سانشو: يا سيدي , أنا جائع جداً , هل يمكننا أن نتوقف لتناول الطعام ؟  دون كيشوت : لا وقت للطعام يا سانشو , علينا أن نواصل مغامرتنا , سانشو:  لكن يا سيدي , لا يمكنني أن أقاتل وأنا جائع , دون كيشوت: لا تقلق يا سانشو, المجد سيشبعك )) .

سادت اوروبا سلطة العقلانية التنويرية بدايات القرن السابع عشر, فأينما يمّمت ستجد أصداء تلك الاكتشافات المعرفية الهائلة التي أغرت وأغوت العقل الأوروبي , وجعلته معتداً بذاته واثقاً من قدراته التي بدت في تلك اللحظة التاريخية أنها قدرات لا متناهية , في فرنسا كان الفيلسوف الشهير رينيه ديكارت يصوغ التصور الجديد للإنسان , التصور المتجسد في مقولة (الكوجيطو/الذات العقلانية) التي تقتحم الكون وتكتشف أسراره , وكان ديكارت يكتب (( أنا أفكر إذن أنا موجود )) , التي ستصبح في غضون فترة وجيزة علامة على صياغة إنسانية جديدة تقوم على اعتبار أن الوعي والعقل هو أساس الوجود ,  أما في إنجلترا فقد كان الفيلسوف الآخر جون لوك يعمل على كتابة مؤلفيْه (( مقالة في الفهم الإنساني)) , والآخر ((عن العقل البشري )) , اللذيْن خصصهما للرد على أطروحة الفيلسوف الفرنسي ديكارت , بالتأكيد لم يكن الجدال بينهما حول قدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة , فهذا النقاش قد بات محسوماً اليوم , إنما كان الجدال يجري حول أي المنهجيات التي ينبغي توسلها للوصول إلى الحقيقة , هل هو المنهج (التجريبي/الاستقرائي) كما يذهب لوك , أم أنه المنهج (العقلي/الاستنباطي) والذي يتبناه ديكارت , وفي هذا المناخ الفكري الذي ساد في عصر التنوير الأوروبي كان الروائي الإسباني الشهير ميخائيل دي سرفانتس يفكر في صياغة شخصيته التي بدأت ملامحها تتكشف الآن , هذه الشخصية التي ستجسد في اندفاعاتها العاطفية وتخييلاتها وتوهماتها غير العقلانية وهوسها بأدب الفروسية وأخلاقه البائدة , وستجسد القطيعة المعرفية مع التصورات الغيبية القديمة للعالم التي أنجزها التنوير الأوروبي , حيث كانت تلك الشخصية لا تزال تتمثل العالم بصورته السحرية غير العقلانية.

(( دون كيشوت: يا سانشو, يجب أن نتبع أحلامنا مهما كانت مستحيلة , سانشو: لكن يا سيدي , بعض الأحلام قد تكون خطيرة , دون كيشوت: لا يا سانشو , الأحلام هي التي تجعل الحياة جديرة بالعيش , سانشو: أتمنى يا سيدي أن تتحقق أحلامك )) .

إنها شخصية (( دون كيشوت )) التي سيولد بولادتها فن الرواية الحديثة , والتي ستصبح بعد ذلك علامة فارقة في تاريخ تطور السرد الروائي من جهة , وعلامة على النقلة المعرفية التي حدثت في تلك الحقبة والقطيعة بين الزمن التقليدي بكل منجزاته الثقافية والفكرية والأدبية , والولوج إلى الزمن الحديث , (( زمن العقل )) , والحسابات الكمية التي لا ترتهن إلى استيهامات الخيال وخلجات الوجدان , حيث تدور أحداث الرواية حول رجل طويل القامة وهزيل البنية ناهز الخمسين عاماً , إنه ألونسو كيخانو الذي سيطلق على نفسه لاحقاً اسم (( دون كيشوت )) , والذي يعيش في واحدة من قرى إسبانيا إبان القرن السادس عشر أي في بدايات عصر النهضة , قضى ألونسو أيامه من الصبح إلى الليل ومن الليل إلى الصبح في قراءة أدب الفروسية , حتى إنه كان يبيع قطعاً من أرضه ليشتري بها كتباً عن الفروسية , وقد انتهى به هذا الهوس الشديد بالفروسية إلى فقدانه لصوابه وخلطه بين أوهامه والواقع , فقد بلغ الهوس بألونسو إلى الحد الذي يقرر فيه استعادة أمجاد الفرسان الجوالين ويقوم بمحاكاة سيرهم في نشر العدل ومساعدة المستضعفين والدفاع عنهم , يقول ألونسو (( لقد وُلدت في هذا العصر الحديدي لكي أبعث العصرَ الذهبي )) , ولذا فقد أعد عدته للقيام بهذه المهمة العظيمة فقام أولاً باستخراج سلاح قديم متهالك خلّفه له أجداده الغابرين فأصلح فيه ما استطاع , ثم لبس درعاً وخوذة وحمل معه سيفاً ورمحاً وامتطى صهوة جواد أعجف هزيل.

(( سانشو: يا سيدي , هل هناك أمل في هذا العالم ؟ دون كيشوت: نعم يا سانشو , هناك دائماً أمل , طالما أننا نؤمن بالخير , سانشو: يا سيدي، كلماتك تبعث في نفسي الأمل , دون كيشوت: الأمل يا سانشو هو السلاح الأقوى )) .

في واقع الحال فقد كان في هذا الجواد المسكين المتهالك من الأسقام والأوجاع أكثر مما كان فيه من الأعضاء السليمة , كان كل ما تبقى منه هو الجلد والعظام وحسب , ورغم ذلك ارتأى صاحبنا أن جواده هذا لم يكن له مثيل في العالم حتى إنه  (( لم يكن ليبادله بجواد الإسكندر)) , وعلى مدى أربعة أيام لاحقة , ظل يفكر في اختيار اسم فخم كي يطلقه على جواده , إذ من غير اللائق لفارس عظيم مثله أن لا يكون لجواده اسم يُـتَعارف عليه بين الناس , وقد اهتدى آخر الأمر إلى إطلاق اسم (( روثينانته )) عليه , بهذه الهيئة التي تشبه فرسان الزمن الغابر الذين انقرضوا منذ عقود خلت انطلق دون كيشوت (لقد أصبح هذا اسمه منذ هذه اللحظة )  في رحلته نحو المجد , وبينما همّ بالخروج رأى أنه لا بد له من سيدة يحبها إذ أن الفارس الجوال إذا خلا من الحب غدا كالجسد بلا روح , ثم سرح بخياله بعيداً إلى حد تصور فيه أنه يواجه عملاقاً من العمالقة , كما يقع في الغالب للفرسان الجوالين , فإذا ما صرعته بضربة واحدة أو قطعته بالسيف نصفين , أفلا يكون من المستحسن أن أجد من أهديه هذا النصر ؟ وهنا أطرق مفكراً وباحثاً عن تلك التي ستكون سيدة قلبه , إلى أن تذكر أنه وقع بشبابه في غرام ابنة فلاح من قريته كانت تدعى ألونزا لورنسو , لكنه مالبث -كعادته في تغيير الأسماء  يبحث لها عن اسم لا يقل نبلاً عن اسمه , فاهتدى أخيراً بعد طول بحث وتنقيب إلى إطلاق اسم دولثينا دي طوبوزو عليها , وما إن شاهد دون كيشوت منظر الفلاح يضرب الغلام حتى أخذ يزمجر بصوت غاضب ((أيها الفارس القليل الأدب , لا يليق بك أن تهاجم من لا يستطيع الدفاع عن نفسه , اركب فرسك وخذ رمحك وسأريك أن من الجبن أن يفعل المرء ما تفعله الآن )) , هاهو فارسنا قد لبس درعه وصقل سيفه واتخذ خليلة له كي يهديها انتصاراته الساحقة المرتقبة , ولم يتبقّ له سوى شيء واحد وهو اختيار مرافق مخلص له , فاختار لهذه المهمة سانشو الفلاح الساذج البسيط الذي وافق أن يكون تابعاً له على أن يجعله دون كيشوت حاكماً لإحدى الجزر التي سيحررها في مغامرته هذه , كان سانشو ضخم الجثة وقصير القامة بعكس صاحبنا , وهنا تأتي أولى المفارقات في هذه الرحلة التي لم تخلُ من المفارقات العجيبة والمضحكة. 

(( سانشو:  يا سيدي , ألا ترى أننا نعيش في عالم من الخيال ؟  دون كيشوت : لا يا سانشو, نحن نعيش في عالم من الفروسية والشرف , سانشو: لكن يا سيدي , العالم ليس كما تراه أنت , دون كيشوت: أنت مخطئ يا سانشو , العالم هو ما نجعله نحن )) .

يمكن الربط بين رواية دون كيشوت وواقع العراق الحالي من خلال عدة أوجه , فكما عاش دون كيشوت في عالم من الخيال , يواجه العراقيون اليوم صراعاً بين واقع مرير وتطلعات نحو مستقبل أفضل , فهناك من يتمسك بأوهام الماضي , ومن يحاول بناء واقع جديد , مما يخلق صراعات مشابهة لصراعات دون كيشوت , وكما سعى دون كيشوت إلى تحقيق العدالة في عالم ظالم , وهو ما يسعى إليه العراقيون اليوم في ظل الفساد والمشاكل السياسية , إن البحث عن العدالة والمساواة يمكن أن يكون دافعاً أساسياً للعديد من الحركات والاحتجاجات في العراق , مثلما كان دافعاً لرحلات دون كيشوت , وقد يجد البعض في العراق أنفسهم في مواجهة (( طواحين هواء )) , تتمثل في قوى سياسية أو اجتماعية تبدو قوية ولكنها في الواقع وهمية أو ضعيفة , ويمكن ان يفسر البعض محاربة دون كيشوت لطواحين الهواء على انها محاربة لقوى وهمية لا وجود لها على ارض الواقع , وهذا ما يمكن ان يراه البعض في واقع العراق الحالي , ويمكن اعتبار شخصية دون كيشوت رمزا للبطل الضائع الذي يحاول ان يصنع واقعا من خياله , وهذا ما يمكن ان نراه في بعض الشخصيات العراقية التي تحاول ان تصنع واقعا افضل من واقعها الحالي , بشكل عام , يمكن اعتبار رواية دون كيشوت رمزاً للصراع بين الواقع والخيال , وبين الأمل واليأس, وهي صراعات موجودة في كل المجتمعات , بما في ذلك العراق .