22 ديسمبر، 2024 9:48 ص

مقامة الخيبة ونسيانها

مقامة الخيبة ونسيانها

أعاد الدكتور ظاهر شوكت نشر عبارة تقول : (( تعلمت من الخيبات المستمرة كيف انسى ولكني لم اتعلم كيف امحو ) , ذكرني بخيبة عام 2003 بعد الأحتلال , اصبحت بحكم وظيفتي أقيم في المنفى , بدأت أدرك حجم الفاجعة , وقيمة اشياء وتفاصيل كنت أظنها جزءا مملا من الحياة , فأذا بي احسها انها حياتي كلها , سنوات صداقتي مع نخلات الدار , وفترات جني التمر , وضوء القمر على سطح الدار في صيف النفوف لنهر ديالى المجاور, وجلسات السهر في المقاهي مع الخلان , انهارت في لحظة واحدة , كم هي خائنة تلك الأشياء التي تيمتنا وكنا نظن اننا تيمناها بدورنا , فأكتشفنا ذات خديعة انها لم تكن سوى بائعة هوى تمضي مع من يدفع أكثر , ومع توالي الخيبات , الفصل من الوظيفة , والحرمان من موارد العيش , بدأت افكر ماذا ندفع الآن نحن الفقراء كما ينبغي , التعساء كما يستحق ؟ الذين لم يسيجوا اوطانهم , البؤساء كما يليق بالذين قاسموا خبزهم مع كل عابر دون ان يسألوه من اين اتيت والى اين تمضي , هناك وقبل ان اتخذ قرار الرجوع السريع اكتشفت كم نحن طاعنين في الهزيمة, واكتشفت ان المخلوع من وطنه يستحيل ان تستره كل خيام معسكرات اللجوء , واكتشفت انه يلزمني سنوات لأجيد الأستعطاء , وسنوات أخرى لأئلف الخيبة.

في تفسير الطبري سأل رجل عبدالله بن عمرو بن العاص : ألسنا من فقراء المهاجرين يا بن عمرو ؟ فقال له عبدالله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم , ثم سأله ألك مسكن تسكنه ؟
قال : نعم , فقال له ابن عمرو : فأنت من الأغنياء ؟ فقال الرجل : إن لي خادمًا , فقال له ابن عمرو : فأنت من الملوك , وعندما سئل أحد الحكماء : (( لماذا أحسنت إلى من أساء إليك ؟ فقال لأنني بالإحسان أجعل حياته أفضل , ويومي أجمل , ومبادئي أقوى , وروحي أنقى ونفسي أصفى )) , وهكذا فالضعفاء ينتقمون , والأقوياء يسامحون , والأذكياء يتجاهلون , وأننا تعودنا انه في المدرسة يعَّلِمونك الدَرس ثم يختَبِرونك, أمَا الحياة فتختَبرك ثم تُعَلِمك الدرس , والمتفائل هو من يصنع من صعوباته فرص , ليجد أنّ الحياة لا تزال جديرة بالاهتمام , وهكذا يظل الإنسان في هذه الحياة مثل قلم الرصاص تبريه العثرات ليكتب بخط أجمل , ويكون هكذا حتى يفنى القلم ,وﻻ يبقى له إلا جميل ما كتب .

يقول د . أدهم شرقاوي : ليس كل مافي خواطرنا يقال , وليس كل مايقال مقصود , وليس كل مايكتب واقع نعيشه , إبتسامة صادقة , و قلب نظيف , و تعامل جيد , و نفس مرحة , وكلمة طيبة هكذا تعيش جمال الحياة , ألا ان بعض الأخطاء لا تغتفر , وليس دائما عليك ان تصفع على خدك فتدير الآخر , ثمة ضربات يغفرها الرجال للرجال , فلا تخلو واقعة الا وذاق بعضهم بأس بعض , ولكن ثمة نذالة يجب ان يدفع ثمنها , (( إذا المرء لم يَمدحه حُسن فِعاله, فمادحه يَهذي وإن كان مُفصحا )) .

الناس كالفراشات , أحيانا لا يرون جمال الألوان على اجنحتهم , فلنمتدح مواطن الجمال في الناس فهذا فعل اصحاب القلوب السليمة , وليس كل شيء في القلب يقال , ‏لذلك خلقت ‏ التنهيدة , ‏والدموع , ‏والنوم الطويل , ‏والإبتسامة الباردة , ‏لذا فلنسقط كل هَمٍّ يتعبنا في قاع الحياة ولنقذفه بعيداً , والفراشة لا تعرف لون أجنحتها ولا مدى جمالها , لكن أنت تعرف كم هي جميلة , و الفراشة كانت دودة , و لكن تحولت شرنقة , ثم تحولت الى شيء جميل لكنها بعقلية دودة , ونحن لا تعرف مدى قدراتنا و تميزنا , حتى نجد من يقدرنا و يقدر تميزنا , فلا نكن كالمجهر الذي يضخم التفاصيل الصغيرة , ويكشف مواطن القبح , ولنكن كمرآة تعكس ما أمامها بحيادية .

تنفرجَ أسارير المرحوم فؤاد سالم وهو ويغنّي : (( يا بو بلم عشّاري , الشوق هزني بو بلم وهيّج عليّ أفكاري )) , وأبو البلم هو البلّام , أي حادي سفينة الماء , وتلك أغنيةٌ عذبةٌ عذوبة أهل البصرة , من أجمل ما كتب عليّ العضب ولحّن مجيد العلي , فكيف وصلت التسمية من أحفاد سومر إلى شواطئ الكون ؟ سنفهم خيبات المغنّي البصريّ ولوعته , حين يهمس : (( يا بو بَلَم بصرتنا ما عذبّت مُحبّ واحنا العشق عذّبنا , يا بو بلم شط العرب يعرفنا ويوالفنا )) , فمن يكن جميل الخلق تهواه القلوب .