يتساءل دوستويفسكي متعجبًا: (( كيف احتملت فكرة أنك تركت ثغرة مؤلمة في صدر أحدهم سترافقه طوال حياته, ثم مضيت هكذا دون أن تكترث لشيء؟ )) تلك هي تراجيديا الخذلان , ويُعرف الخذلان لغويًا بأنه مصدر للفعل (( خذل )) , ويعني ترك الشخص أو عدم نصرته , أما اصطلاحيًا فهو ترك العون والنصرة لمن يعتمد عليك ويظن بك خيراً , إنه شعور قاسٍ ومؤلم , وجع غير متوقع من مصدر غير متوقع , وأشد مرارة من العداوة , لأن العدو لا يُتوقع منه سوى الأذى , بينما الخذلان يأتي ممن تُحب وتثق.
عند الجاحظ , يرتبط الخذلان بالانهيار الأخلاقي والضعف أمام الأعداء , وينتج عن الكبر والغرور الذي يؤدي إلى الهزيمة والخيبة , ويستعيذ الجاحظ بالله من الخذلان , ويصفه بأنه حالة من السقوط الروحي والمعنوي , حيث يبتلى الإنسان بالفقر الشديد أو كثرة العيال , جاعلاً إياه تركاً إلهياً للعبد الذي تقاعس , ولعل أصدق ما كُتب عن الخذلان يتجلى في قول جبران خليل جبران: (( ولكنك ارتضيت لي الأذى , وأنا الذي كنت أحسبك أرقُّ على قلبي مني , فالخذلان بأن استثنيك من بين الجميع وأحارب بِك الدنيا فتحاربني أنت والدنيا معاً )) , لذا يوصي ناصحاً: (( لا تبالغوا في الحب , ولا تبالغوا في الاهتمام والاشتياق , فخلف كل مبالغة صفعة خذلان )) .
فيودور دوستويفسكي يتنهد بحزن ليقول : (( يا سادتي , لقد سرقوا مني كل شيء تقريبًا , ثم أعطيتهم ما تبقّى من تلقاء نفسي )) , هذا الشعور بالاستنزاف العاطفي هو ما يجعل الخذلان درساً عميقاً في الحياة , درساً يفهمه المحبون المخلصون , في زمن الحرب العالمية الثانية , وبينما كان الناس يموتون في غرف الغاز, كان هناك حب يولد بين جبهات القتال , حبٌ جمع بين المعتقل المنسي وحبيبته البعيدة , كان يناجي صورتها على هيئة غيمة , ويؤمن أن من يحبونه لا يمكنهم أبداً أن يخذلونه حتى في مجرد الشعور به , هذا هو المغزى : أن لا تخذل من ألقى في سلة روحك كل مشاعره وصدقه , دون أن ينتظر منك سوى الحب بجميع أشكاله , لا تخذلوا من يضعون ثقتهم بكم , فأنتم الأعلون الذين منحناهم أصدق المشاعر.
يتجلى إبداع ليو تولستوي في طرحه السوداوي المعبّر: (( يا سيدي , إن من يخونوك كأنهم قطعوا ذراعيك , تستطيع مسامحتهم لكنك لا تستطيع معانقتهم )) , فتأمل معي , الخذلان قد يأتيك من شخص, أو وطن , أو حتى من نفسك حين تتعلق بآمال وأحلام كان من العسير عليك ترويضها , لا يُوجَد أحَدْ مَضمُون فِي هذَه الدنيَّا , فحَتَّى قُلوبَنَا التِي هِي لَنَا سَتَخْذِلُنَا يَومَاً مَا وتَتَوَقفُ عِنْ النَبْض , وقمة الخذلان أن تسكنه عينيك , فيصب الرمد فيها ويذهب , أن تسكنه روحك فيحرقها بلهيب جحوده ويرحل , ولكي لا نسمح لِلخُذلان بِالتسرُب إلينا , علينا ألا نَرفع سقف توقعاتنا بأحد , فالحياة همست يوماً : لا تُعوِّل على الآخرين , ولا تَعقد خط آمالك على سبل السراب.
لقد تعمّق عرّاب الإلهام والفكر أحمد خالد توفيق في وصف سيكولوجية الخوف حين قال: (( كطفل هرول إلى أمّه ليحتضنها فتلقى صفعة ليكفّ عن البكاء , هكذا هو الخذلان )) , ومن منا لم يتجرع مرارة الخِذلان؟ الكلّ قد أخذ نصيبهُ منه بنسب مُتفاوتة , إنّ الخِذلان في وقعِه على النّفس أقسى من أيّ شيء آخر, لأنه نابع من مدى محبتِنَا وثقَتنا بالطّرفِ الآخر, فكلّما كان الشّخص قريباً , كلّما كان الألم والخيبة أكبر, حين تأمل وترتجي منهم فيصفعونك بخيبة تلو الخيبة , يظهر لك زيفُ العلاقة , وترتطمُ أنت بواقع مرير كان صوب عينيك منذ البداية لكنّك كُنت غافلاً.
إننا نعيش اليوم الوجه القاتم لـ (( مكر التاريخ)) , هذه الفكرة الهيغلية تؤكد طابعها المأساوي فوق أرضنا وفي زماننا هذا , حيث تنهض الشعوب للتضحية والاستشهاد , فتنصب في النهاية حكومات محافظة ومتخاذلة ضد نضالاتها , فتكون الحكومة المعوّل عليها هي الوبال الأكبر على الشعب , وتعمل كخادم مطيع للإملاءات التحكمية , والسباق نحو مراكمة المصالح الخاصة , وهنا يتجرع الجميع مرارة الخذلان , إلّا أنه خذلان يُقسّم على الطوائف والقوميّات بعد أن تحوّل قادتها إلى ما يُشبه مديري حكومة احتلال , ومرارة الخذلان مُرعبة إذا ما تمّ تجرّعها من دون أن يلحقها دواء شافٍ لها , فكلّ انفلات سيحصل اليوم أو غداً لا يتحمّل مسؤوليته المحتجّون , وإنما أولئك النهابون الذين تركوا ثُلث المجتمع تتعارك مصارينه بسبب الجوع , وتركوا العراقيين بلا حقوق تضمنها الشرائع كلها : الكرامة , والأمن , والغذاء , والسكن , والتعليم , والطبابة والخدمات.

أحدث المقالات

أحدث المقالات