يقول روبرتو دي نيرو : (( لا تعد إلى المكان الذي كنت فيه سعيدًا يومًا ما , فذلك فخٌ من فخاخ الحنين , كلّ شيء قد تغيّر , ولن يكون كما كان , حتى أنت ,  لا تحاول أن تبحث عن نفس الوجوه , ولا نفس الأمكنة,  فالزمن لئيم , وقد تواطأ على هدم ما جعلك سعيدًا ذات يوم , لا تعد,  احتفظ بذلك الزمن في ذاكرتك كما كان , نقيًا , كاملًا,  لكن لا تعُد إليهفالحياة تمضي , وهناك دروبٌ جديدة تنتظر خُطاك ,وأمكنة أخرى لم تُدهشك بعد , وأشخاص لم يمنحك القدر لقاءهم بعد )) , تذكرت هذا القول بعدما نشر صاحبنا الثمانيني :

(( حالة حنين  : صدفة اخذني الدرب من يم داركموالتمت بروحي المحنة واشتهيت اخباركم , متذكرت عايفكم وعفتوني ,  رد من جديد الشوك بين عيوني , والتمت بروحي المحنة واشتهيت اخباركم )) , أنه حديث الروح تحركه ملعقة الشوق المغمورة بالوجد و جدران الفؤاد حيث صدى الذكريات تملأ ذاكرة الزمكان .

ننظر في المرآة , فتأكلنا التجاعيد , أوسمةُ مقارعة ألأزمنةِ الصعبةِ , وعنوانُ طغيانِ نكوص عشق يمخرُ عبابَ محيطاتِ السنواتِ , وملامحُ مُرَاهَقةٍ أزليّةٍ أدمنت المشاكسات , ينْكَشَف السِّرُّ,  وتموت الأحزانُ , ونبوءة السحْر , بزوالِ البرْقِ تحْتَ الدموع , ذلك كان شجَرا محترقاً في الريح  , ونظل غارقين في الحلم اللذيذ : (( سيأتيك الهُدهدُ وينْقرُ عينيك وتكون َسراباً من ريشِ الطاووس  )) , فيتوارد الى الخاطر كيف خرج المتنبي على غير عادته عن شعر الحكمة والمدح والفخر وقال بيتين من أعذب وأرقّ أبيات شعر الغزل على الإطلاق : (( لا السيفُ يفعلُ بي ما أنتِ فاعلةٌ ولا لقاءُ عدوَّي مثلَ لُقياك , لو باتَ سهمٌ من الأعداءِ في كَبدي ما نالَ مِنَّيَ ما نالتْهُ عيناك )) .

أغنية (( يم داركم )) ,هي من كلمات الشاعر كاظم الرويعي وألحان القره غولي , و لم يكن الملحن الكبير طالب القره غولي مقتنعاً بصوت المطرب حميد منصور, وكلما طلب منه أن يلحن له , يقول له (( صوتك لم يرتكز بعد )) , لذلك تأخر تعامله معه إلى العام 1986 ولم تتولد القناعة التامة للقره غولي بالتلحين لصوته , لكن توفرت لحميد منصور فرصة تاريخية , استغلها بحيلة ودهاء , وفرض نفسه على القره غولي ليطبع الأخير فيض إبداعه على صوته لواحدة من أجمل أغانيه , وهناك قصة عاطفية للفنان طالب القره غولي مع هذه الأغنية , سكب فيها مشاعره المجروحة وكلما سمعها من مطرب آخر يبكي , وقد وضعها على مقام الحجاز , الذي يجمع بين الشجن والعاطفة والنجوى , واستخدم فيها إيقاعاً عدنياً , ولم يكتف منصور بهذه الأغنية أنما فاجأ القره غولي  بأغنية (( اعذرني ولا تزعل )) الذي أراد أن يغنيها , والمفارقة أن الأغنية غير مكتملة فاتصل القره غولي بشاعرها عبد اللطيف البناي , ليكتب الكوبليه الأخير (( يا احلى واجمل طيف نور دنيتي )) , وقد لحنه على مقام البيات الحسيني , وكان من أجمل مقاطع الأغنية, ليتوج الفنان الكبير حميد منصور تجربته بأغنيتين رائعتين من ألحان طالب , جاءت من خلال سرقة بيضاء تحسب في ميزان إبداع وذكاء مطربها

يستحضر صاحبنا من خلال أغنية (( يم داركم )) ما كان فينا من لسعِ الوردِ الأول , من شفافيةٍ أولى ودهشةٍ أولى , ومن شجنٍ أوّل , كأنَّ أحداً منا لم يفترقْ عن أحدٍ أو مكانٍ أو عاطفة , وكأنَّ أحداً أيضاً لم يلتقِ بما ضاع منه فيه وفي طرقات يمحوها المطر , ولكنّ الجمالَ المتسرب هو الذي يوجعنا , ونحن نحاول الإطلالة , من غيمِ الصوتِ البعيد , على صورتنا الأولى , في أقاليمَ أخرى , أغنية تطيّر الأيام , كما تطيّر أسراب اليمام , ثم تعيدُ ترتيبها في إناءٍ بلّوريّ على ظهرِ مهرٍ نزق , كم أنكسر , وسينكسر, كم أنكسر دون أن ينكسر , يغنّي في منطقة آمنة , مُسيّجة بزهور برّية , منطقة بيضاء خالية من المفاهيم ومن الاختلاف , في ساحةٍ صغيرة قد يتحوّل فيها الأعداء إلى خصوم .

من اروع رسائل الحب تلك التي كتبها مزمل أزادي إلى حبيبتِهِ : (( لا شيء مهم ,غيرَ أن الطّريق التّرابي الّذي كنتُ أقطعهُ مشيّاً للوصول لبيتكم , تمّ رصفهُ وإضاءته, لا يحتاجُ خطيبَك الجديد أن يقطعَ الوحلَ كما كنتُ أفعل )) ,  فجاء الشاعر الشعبي العراقي وترجمها إلى ))خذاها الما سهر بالرِكن تالي الليل اخذها الما كشط خده بتراجيها (( .

أحدث المقالات

أحدث المقالات