23 ديسمبر، 2024 4:21 ص

مقامة الحضن الدافيء

مقامة الحضن الدافيء

كتب الدكتور محمود الجاف  نصا بعنوان (نشتاق حضنا دافئا ) , قال فيه (( بين جنباتنا روحا يُؤلمُها الفراق , والليل يُؤذينا والفجر السعيد الكاذب الأفاق, نشتاق يوماً غائباً يأتينا وأحباباً واراهُم الثرى ورفاق , ومساءً مُقمراً يجمعنا أو صُبحا كامل الإشراق , أو ذاك الذي ينظرنا حبيباً للقائنا تَواق , نشتاق الذي يسمعنا وحُضنا دافئًا وعناق )) , ولما كنت أشعر بنفس هذا الأحساس , احببت ان اناوحه بهذه المقامة .

نشتاق  , ولكنهم يقولون ان للحب تاريخ أنتهاء , كما للعمر, وكما للمعلبات والأدوية , كما اني أخشى اذا (( أتتْ وحياضُ الموتِ بيني وبينها وجادتْ بوصلٍ حيِث لا ينفعُ الوصلُ )) , فدعوها تأتي في غمار الشوق , كسرابٍ من انتظارٍ لا ينطفئ , لم تكن لحظةً , بل زمنٌ من الأحلام ينحني لحضورها,ففي عينيها أسرارٌ تتلاشى كلما اقتربت , كظلٍ يتبعني , ويختفي حين ألمسه , هي الشوق ذاته , رغبةٌ لا تعرف الاكتمال , وجوابٌ يعانق السؤال , في صمتٍ لا ينتهي , وهي تأتي , لا لتطفئ نار الانتظار, بل لتزيدها اشتعالًا , فكلما نظرتُ إليها , أحسست أن الطريق أطول ,هي حلمٌ وحقيقة , مزيجٌ غامضٌ من الاثنين , وفي غمار الشوق تصبح الحدود غير واضحة , وكلما اقتربتُ , ابتعدت ,وكلما نسيتُ , تذكرت , كغيمة تمطر مرةً ثم تذوب في الأفق , يا حلمي الجميل , كلما أطلت التفكير فيك , تاهت مني كلماتي , واختزلت بك كل أبجديتيبنقطة في نهاية السطر.

يقف القلب بدونك على عتبة الصمت الباكي , تخذلني الألوان حين تعجز أناملي عن رسمك , سنابل الخفايا تراود أبواب القصيدة وتصرخ هيت لك , كأنك أنت وكفى , تقيم في معبد الآلهة , وأمواج الشجون لا زالت تجدف بي صوب قطيع من السهر , فيا أيها الرابض بين حروف التكوين , والقابع خلف نجمة ضاربة في تضاريس الحروف, تطل مكتظًا بالنور, في منتصف المسافة بيني وبين العوسج البري , بغفلة من جنوح الريح , وعند الصحو , ألعن الليل واحلام المساء , والسويعات التي مابين وعد ولقاء , فلا تقولي نم , فأني قد هجرت النوم والتاريخ طوعا بأشتهاء , أنني ماعدت يوماً شاعراً يكتب كذبا بانتقاء , أتركيني أنني اليوم غريب .

حتى الاحلام أصبحت ضيقة , تؤلمني المسافات , تؤرقني العثرات , تحاصرني عينيك في زوايا عالمنا المزدحم  , أين أجدك آه يا حلم , لم تُمهل شهقة تمنحك الحياة , ياويلتي فنحن نقع في حُب أشخاصٍ لا يُمكننا الحصول عليهم , اما نصحونا ؟ وقالوا إياكم والمقاعد الأمامية في قلوب الآخرين  , لأنها ستكون الأكثر تضررا بحوادث فقدان الثقة وسوء الظن ,  كونوا على الحياد  : لاوصال دائم  ,ولا فراق موجع , وستنعموا بدفء القلوب .

تتكدس الحكايات على الشفاه التي تخاف البوح , وأنتظر الراوي الذي نسي حروفه وبقيت قصصه عارية من روحها ومن المعاني , وأنا أتصدع مثل الرخام عندما يأتي صدى صوتك البعيد , وعندما تتساقط ذيول الكلمات لتفتش عن نصوصها تبحث عيوني عنك في مفترق بين الحضور والغياب , ولا تكف عن سؤال كَونيّ ولِد من رحم الأزل : لماذا ؟ لكن الجواب يتكور كحبة لؤلؤ ليعود الى صدفته وينغلق الى الأبد , فأتبعثر أنا من إنكسارات الألم  , وألتحم من جديد حول قطرة حب سقطت صدفة في بحر وتلاشت مع أمواجه.

وفي التأوّه (( يكون الحلم بالنسيم ُ الدافيء في جُرح فمها,  اكثر ُ نشوة ً من الاغنية , وأغنية ٌواحدة ٌ بعشرات الألحان  , ويكون لها الأنفاس ُ,  ولَك الطَرَب ُالمكتوم )) , قضايا إنسانيّة تعبّر عن حالة الفقد , وما يترتّب عليها من أحزان , لتنتج بوح عاطفيّ وجدانيّ يغلب عليه الحزن , وهذه هي عاصفة الرّوح عندما تخلع عنّها رداء التكتم , وقديما قالت العرب  :البعض تعيش معه عمرا , لا تذكر منه لحظةً , والبعض تعيش معه لحظة تتذكرها طول العمر , لأن الذي يحتل القلوب هي المواقف وليس الزمان .

ايها المشتاق , الحب ملاذنا الآمن , وحضن الحبيب على ضيقه أكثر الأماكن أتساعا على ظهر الأرض , الا وأن المحبين يتعزون بالروائح , تريد ان تشم رائحة حبيبك البعيد , تلك الرائحة الكفيلة بأن تجعلك تتماثل للشفاء , تخاف ان تخبر بها من حولك فيحسبونك مهووسا , السلام على قلبك من أن يكسر , فان كسر القلب موجع , وأن لم يحدث صوتا , وأشد ما في كسر القلب اعاذك الله منه أن لا جبيرة له , وستبقى دوما تتحسس هذا الشرخ الذي حدث مهما تظاهرت ان هذه الفجوة قد ألتأمت .