في حوارات منطقتنا (( أم النوة )) , أدلى مختارها غير الرسمي , (( كريم كلاز )) بحكاية من أيام خدمته العسكرية فترة السبعينات في شمالنا الحبيب , في أطراف السليمانية , أنه كان معهم جندي مكلف بدوي أسمه رزاق , ذو أخلاق وأطباع حميدة جعلت الكل يحبونه , ألا ان رزاق كان يأبى النزول بأجازته الدورية , وفي يوم أستدعاه الآمر متسائلا منه عن عنوان أهله وعن أسباب عدم تمتعه بأجازاته , فأجابه أنه لا يعرف العنوان لأن أهله ناس بدو لا مكان ثابت لديهم , ويعتمدون على الكلأ والماء ويتنقلون حسب المواسم , ولما سأله كيف يستدل عليهم , أجابه أنهم يتركون ثايات في المكان الذي يغادرونه , وكذلك في طريق مسيرهم ليتسنى التعرف على أماكن تنقلاتهم , وأنه يعتقد أن الأجازة لا تكفيه للأستدلال عليهم , ويخشى الدخول في الهروب اذا تمتع بالأجازة , ولما كان الآمر يعرف صدق رزاق وسلامة نيته , أمره بالتمتع بالأجازة الدورية , وأن يحتسب أيامها بعد مسيرته على الثايات حتى يصل أهله وعندها تبدأ أيام ألأجازة .
(( الثاية )) , كلمة عربية لها عدة معاني , منها: الحظيرة , حجارة ترفع لتكون علَمًا يُهْتَدى به , مظلة مصنوعة من ثوب وأعواد , وسفينة صغيرة للرياضة , أو تعني علامة توضع على الطريق لتدل على شيء معين , وفي الهندسة عند التطبيق لغرض تثبيت إستقامة ليست دقيقة يضعون (( ثايات )) حجارات فوق بعضها لتدل على حفر ساقية مثلا , وأحيانا عبارة عن كومة تراب صغيرة وغيرها , واحياناً من خشب بحيث يقولون ( ندق ثاية ) , وأحيانا ترمز إلى العناد (يتنحر) وگف چَنَّة ثاية , أي ضرب رجله في الأرض ولم يقتنع , وفي لسان العرب لإبن منظور في ثوا : الثَّواءُ والثَّوِيَّة : حجارة ترفع بالليل فتكون علامة للراعي إذا رجع إلى الغنم لَيْلاً يهتدي بها , وهي أَيضاً أَخفض علم يكون بقدر قِعْدة الإنسان , وهذا يدل على أَن أَلف ثاية منقلبة عن واو , قال هذه ثاية الغنم وثاية الإبل مأْواها وهي عازبة أَو مأْواها حول البيوت , والثَّوِيَّةُ مأْوَى الغنم , وكذلك الثَّايَة , والثِّيَّة لغة في الثَّاية , الثُّوَّة كالصُّوَّة ارتفاع وغِلَظ , ونصبت فوقها الحجارة ليُهْتَدَى بها.
يقول المثل الدارج : (( اذبح على الجبله , وكص على المفصل , واطرد على الثايه , ورافك مأصل , واصبر على الخابط , تشرب مصلصل , واتحذر جزاء السنمار وش حصل , وبسوك الغدر كل مده روح , وشوف سعره للنوايه الصافيه شوصل )) , وفي الشعر الشعبي (( دك بيه ثايه العوز بس مادرت بال / واتبختر بممشاي جدام الانذال )) , وفي مواسم الحزن العراقي يقرأ الرادود حيدر- السعدللشاعر محمد- الجماسي من قصيدة : (( الله فضلها )) : (( حيّو مولاتي أم ابوفاضل .. للوفه امرايه , ابخدمة الظامي واعشق زينب … دكّة الثايه , تقضي للوادم كل حوائجهم .. والله وفّـايه , من ظهر حيدر الجف ابو الغيره .. خلّفت رايه , كل عاشور النه اتمد الإيدين . واتلمنه سويّه بخيمة احسين , ومن لها يقرأ الحمد والتوحيد .. يكون في تأييد قاضية الحوائج )) , وفي الاغنية الشهيرة لسعد الكعبي يقول : (( دكو الثايات عمامي على خشوم الزلم )) , وفي الهوسة الشعبية : (( بس أبن الثايه أميزينه )) , ومن الدارميات (( أطبخ وذبح نوك وألبس صوايه , محد يكلك شيخ لو ماكو كل ثاية , الشيخة حظ وجاه مو صايه وعكال كون على كطعت هاي ( اللوزة ) حظ الله ينكال , عزبوا ويطبخون بس كلشي مافاد ماكدروا يقلدون خلك ابن الأجواد )) .
وفي (حلقات الذكر ) التي يقودها الدراويش وأصحاب الطرق من رفاعية وكسنزانية وقادرية , يعرف ( السادة النعيم ) الذين لهم شهرة واسعة في أعمال الذكر والموالد باعتبارهم أصحاب طريقة خاصة بذلك حيث إن أصحاب هذه الطرق يتفاخرون بقابليات محاسيبهم ( أتباعهم ) على الضرب بالسيف أو ما يطلق عليه بالدروشة واستعمال الحراب جمع حربة وهي سلاح يشبه السيف يستخدمه أصحاب الطرق في ضرب أنفسهم عند وصولهم إلى حالة الدروشة أو حالة الجَذب كما يطلق عليها أصحاب الطرق , من ضمن الطقوس التي يمارسها الدراويش هي ترتيل وترديد المدائح النبوية مع الضرب على الدفوف واستحضار أرواح الأجداد لكي يسهل من عملية الضرب بالحراب ولا أريد الخوض في علمية وشرعية هذا الطقس فنحن نحترم شعائر واعتقادات الآخرين , الذروة يصلها الدرويش عندما يستحضر صورة جده وعندها تبدأ عملية الضرب بالحراب , ومن ضمن المدائح التي يستعملها السادة النعيم والتي تجعلهم يصلون إلى الذروة هي :(( شوَرط المَثبور داس الثاية ولد النعيم البل ضرب كَصاية )) , ومعنى المَثبور هنا : هو الشخص الذي سيتعرض لمشاكل لا حد لها , ومعنى الثاية : الحد أو الحدود , وكل المعنى : إن شخص تورط بان عبر حدوده فسيضرب بقوة لان من طبيعة السادة النعيم أن يضربوا بقسوة .