تفاجأت اليوم بمقالة الكاتب مأمون فندي أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون بعنوان (( ألأستزمان )) , والذي قال : (( انه الهيمنة على محور الزمن , في حين أن الاستعمار التقليدي كان هيمنة على المكان وأهله وموارده , فعلى مدى القرون الماضية , عُرف الاستعمار كفعل مادي يرتبط باحتلال المكان والسيطرة على موارده , بالقوة العسكرية أو بالهيمنة الاقتصادية والسياسية المباشرة , وقد ترسخ هذا الفهم في الفكر السياسي والتاريخي خلال العصر الكولونيالي , وحتى في أدبيات ما بعد الكولونيالية , حيث كانت الأرض والمكان مسرح الصراع , وتُقاس قوة الدول بقدرتها على بسط نفوذها على الجغرافيا والتحكم في الموارد , أما الاستزمان , فهو شكل جديد من الاحتلال يهيمن على زمن الأمم: ماضيها (عبر سرقة التراث والآثار أو تشويهها) , حاضرها (من خلال القوة الناعمة) , ومستقبلها (عبر الديون أو الحصار الاقتصادي) , وهو نتيجة التحولات المعاصرة في النظام العالمي , حيث لم يعد الاحتلال فجاجةً كالاستعمار القديم , بل صار أكثر خفاءً وتعقيداً , يتجاوز المكان ليطول الزمن نفسه)) .
(( الاستزمان )) هو مصطلح جديد وواسع الانتشار, يُستخدم لوصف شكل حديث من الهيمنة أو الاحتلال , لا يرتبط هذا المفهوم بالسيطرة على الأرض والموارد مثلما كان يحدث في الاستعمار التقليدي , بل يركز على السيطرة على الزمن الخاص بالشعوب والدول , بما يمكن فهم ان (( الاستزمان )) يعني إدخال الدول المهيمنة لآلياتها الثقافية , والاقتصادية , والسياسية التي تعمل على تعطيل (( زمن )) الأمم الأخرى , أي إنه نوع من الاحتلال غير المرئي الذي لا يُقاس بالحدود الجغرافية , بل بمدى القدرة على التحكم في مستقبل الشعوب , وإغراقها في حالة من التخلف والتبعية , مما يمنعها من تحقيق التقدم والنهوض .
يتم تحقيق هذا النوع من الهيمنة عبر عدة آليات : السيطرة على المعرفة بتحويل الدول المهيمن عليها إلى مجرد مستهلكة للمعرفة والتقنيات , مما يمنعها من المساهمة في إنتاجها , وهذا يخلق فجوة زمنية كبيرة بين الدول المتقدمة والدول التابعة , وبالتحكم الاقتصادي من خلال إدخال نماذج اقتصادية تخدم مصالح الدول الكبرى , ودفع الدول النامية إلى الدخول في دورات من الديون والتبعية الاقتصادية , مما يجعلها غير قادرة على التخطيط لمستقبلها المستقل , اضافة الى الهيمنة الثقافية, بفرض أنماط ثقافية واستهلاكية مستوردة , مما يشتت الشعوب عن تراثها وقيمها ويجعلها مهتمة باللحظة الحاضرة فقط , دون التفكير في أهدافها على المدى الطويل , والتأثير السياسي من خلال التدخل في الشؤون السياسية الداخلية للدول , مما يعيق عملية التنمية المستدامة ويُبقيها في حالة من عدم الاستقرار السياسي , باختصار, الاستزمان هو معركة على مستقبل الأمم , حيث تُستخدم أدوات جديدة لإخضاع إرادتها وتجميد حركتها التاريخية , مما يجعلها تعيش في (( زمن )) غير زمنها , ومسيرة نحو أهداف لا تخصها.
الاستزمان مفهوم يمثل تحولاً في أشكال الهيمنة , فهو يختلف جذريًا عن الاستعمار التقليدي , بينما كان الأخير يرتكز على السيطرة المادية المباشرة , يعتمد الاستزمان على آليات غير مرئية تهدف إلى التحكم في مستقبل الأمم , وببساطة , الاستعمار هو احتلال للأرض , بينما الاستزمان هو احتلال للمستقبل, في الاستعمار, كان المحتل يأتي من الخارج , يفرض قوانينه , وينهب الثروات , أما في الاستزمان , فإن الهيمنة تأتي عبر آليات معقدة تجعل الأمة نفسها تشارك في (( احتلال )) مستقبلها , على سبيل المثال , اقتصاديًا, يصبح البلد تابعًا للسوق العالمية , وتُفرض عليه شروط معينة في التجارة أو الديون , مما يجعله غير قادر على تحقيق تنمية ذاتية , وتكنولوجيًا, يُجبر على استيراد التكنولوجيا من الخارج , ولا يُسمح له بتطويرها محليًا , مما يجعله دائمًا متأخرًا ومستنزفًا , وفكريًا وثقافيًا, يتم إدخال أنماط فكرية وثقافية معينة , تؤثر على طريقة التفكير وتجعل الشعب مستهلكًا للأفكار بدلًا من أن يكون منتجًا لها , لقد كان الاستعمار يقاتل بالجيوش , أما الاستزمان فيقاتل بالأفكار , والمعرفة , والتحكم في دورة الحياة الاقتصادية والتكنولوجية , مما يجعل التحرر منه أكثر صعوبة , لأنه يتطلب تحريرًا فكريًا واقتصاديًا قبل أن يكون سياسيًا.
في هذا السياق , يمكن فهم (( استعمار الزمن )) باعتباره امتداداً للاستعمار التقليدي , لكنه يستبدل التاريخ بالجغرافيا , والسنوات بالأرض , والهيمنة عبر الديون والآليات المالية طويلة الأمد بالاحتلال العسكري , هذه الآليات تعمل على محور الزمن , فتجعل القرارات السياسية والاقتصادية مرهونة بأفق زمني خارج إرادة الأمة ,فإذا كانت الديون ارتهاناً للزمان , فإن الحصار الاقتصادي أداة إضافية للتحكم فيه , فالعقوبات , سواء كانت مالية أم سياسية , لا تستهدف الموارد الحالية فقط , بل تقيد مسار التطور المستقبلي , وتجبر الدول على إعادة ترتيب أولوياتها بما يبطئ أو يسرع إيقاعها الداخلي , فإذا كانت القروض الطويلة الأجل استعماراً للزمن , فإن الحصار يكثف هذا الاستعمار, إما عبر تسريع أزمة الموارد وإجبار الأمة على قرارات عاجلة , وإما عبر تعطيل التنمية , وتأجيل أفق التقدم .
الاستزمان ليس مجرد استعارة شعرية , بل حقيقة تتجلَّى في قيود تمتد إلى ما بعد الحاضر , فتجعل الأجيال القادمة سجينة زمن الآباء المقيد , ففي تجارب مثل محاولة العراق عام 1973 تأميم موارده الطبيعية , فرضت عليه حروب وحصارات جعلته خاضعا لأستزمان أقسى من ألأستعمار, وأصبح التحرر من الاستزمان أصعب , إذ يشبه الدخول في دوامة زمنية لا مخرج منها , هنا يصبح المستقبل مثقلاً بالتزامات طويلة الأمد , ويتحول إلى حق انتفاع للحاضر على حساب أجيال لم تولد بعد, مع القيود التي يفرضها الحصار على النمو والاستثمار , وبالتالي على الزمن الإنتاجي للأمة.
ان الوعي بالاستزمان والحصار الاقتصادي ضرورة نظرية وعملية , ليس فقط لفهم القيود على الحاضر , بل أيضاً لاستعادة القدرة على رسم المستقبل , وكما أن التحرر من الاستعمار المكاني تَطَلَّبَ مقاومة سياسية وعسكرية , فإن التحرر من الاستزمان يتطلب مقاومة معرفية واقتصادية وسياسية , ورؤية طويلة المدى ترفض بيع الأجيال القادمة مقابل مكاسب آنية , فالزمن , مثل المكان , يمكن أن يُحتل , لكن استعادته أصعب لأنه غير مرئي ولا يُقاس بالحدود بل بالآفاق التي تُفتح أو تُغلق أمام الشعوب , وإن متاهة الزمان التي دخلتها بعض الأمم يصعب الخروج منها إلا بإدراك معاني الاستزمان , وابتكار سبل التحرر منه .