الشيخ الثمانيني أرسل ما أسماه (همسة منعشة في صباح جميل ) حين اقتبس من زوربا اليوناني قوله : (( الحب يذهب الخوف , الحب لايموت بالفراق , انما يتحول الى شبح يرافقنا )) , ثم يضيف اليه قول عبدالرحمن منيف على لسان طبيب (( حين يأتي الحب , يرحل المرض )) , لم يدر شيخنا أين يواري جثمان الذاكرة بعد ان وقع في الكمين اللاهب , فيخترع القصائد والقصص والروايات علها تطفيء , ولكن هيهات .
يبوح هذا الشيخ بأسراره , ناسيا ماقاله جبران : (( أن بحت باسرارك للريح فلا تلم الريح إن باحت بها للشجر)) , ذلك اننا نخفي اسرارنا لدى من نصادف , وكسنجاب ننسى في اي فجوة شجرة خبأناها , ولأي أذن اودعناها , اسرارنا تشبهنا , منها المكابرة , والمتداولة , وتلك القاتلة , اسرارنا سيئة السمعة وأخرى عفيفة , وهناك المدمرة المخيفة , وأخرى تقية حتى في سرها تخاف الله ,ثمة أسرار دائمة البحث عن أذن , وأخرى في انتظاروسادة او حضن , وثالثة استقرت في قعر بئر , الأسرار التي تموت معنا وتلك التي تعيش بعدنا , وتلك التي نتمنى لو بحنا بها لراحل غريب يأخذها معه لقبره , واخرى سعدنا لأنها لن تفضحنا وماتت مع أصحابها .
يقول مصطفى صادق الرافعي (( أنتَ لم تحبها هي , أنت أحببت جزءاً من روحكَ وضعهُ اللهُ فيها , فهي مخلوقةٌ من ضلعك , أقرب مكان الى قلبك لذلكَ منتهى الحب أن تناديها يا ( أنا ) , هي لم تحبكَ أنت , هي أحبت الوطنَ التي نُزعت منه فعندما ترجع اليك تشعرُ أنك وطنها , إنه حنين غريب كحنين القارب لحضن الشط , كحنين المسافر لرائحة البيت )) , تصف أحلام مستغانمي الحب في كتابها ( شهيا كفراق ) : (( قد يأتي الحبّ كرفيق مصادفة , ثمّ تُفاجأ به يلازمك , اترك له مقعدًا شاغرًا جوارك , كي يستدلّ عليك وسط الزحام , ذلك أنّه يصل عندما تكون مزدحمًا بكلّ شيء عداه )) .
كتب عمار الربيعي : (( لم أستطع يوماً أن أسامح هؤلاء الذين رحلوا , الخائنون الراحلون دون سبب , الراحلون النازحون لغيرنا , حتي هؤلاء الذين رحلوا فجأة للقاء مصيرهم , لم أستطع أن أسامح أماكنهم الفارغة , لم أستطع أن أسامحهم على جرح قلبي و مشاعرى , لم أستطع أن أسامحهم علي اشتياقي إلي لقاءهم , حديثهم , صوتهم , وجوههم , إشتياقي الكامن لهم ,أنا أدرك الحقيقة ببطيء شديد , بعد فوات الأوان , لكن الواقع أن الجميع يرحل لا أحد باقي , لا أحد باقٍ , وإن اختلفت دواعيهم , ولكن الجميع يرحل , من يرحل بأمر الله , من يرحل عنك مللاً , من يرحل زهداً , من يرحل لوعةً وحباً , من يرحل خوفاً , من يرحل ظناً أن أماكنهم لن تقبل غيرهم , من يرحل غباءاً , ومن يرحل انشغالاً , ومن يرحل طمعاً , من يرحل دون أن يدرك , ومن يرحل وهو بك مشرك , أدرك الحقيقة ببطيء شديد أن الحياة هي محطة رحيل , أن الجميع يرحل وأن الجميع وحيد , والجميع فيها راحل عن الجميع , حتي أنا لست سوى أحد المهاجرين ,نحن في صالة انتظار الرحلات , يمر من
يمر ويرحل من يرحل ونبقي وحدنا , أسفي , عذرى وإعتذارى لمن رحلت عنهم ,عمدا أو غباءا أو ضعفاً , وأسفي لمن لم أستطع البقاء جوارهم )) .
كان الحب أفضل حالاً يوم كان الحمام ساعي بريد يحمل رسائل العشاق , كم من الأشواق اغتالها الجوال وهو يقرب المسافات , نسي الناس تلك اللهفة التي كان العشاق ينتظرون بها ساعي بريد , وأي حدث جلل أن يخط المرء ( أحبك ) بيده , أية سعادة وأية مجازفة أن يحتفظ المرء برسالة حب إلى آخر العمر , اليوم ( أحبك ) قابلة للمحو بكبسة زر , هي لا تعيش إلا دقيقة , ولا تكلف إلا فلساً , ومن فوضى الحواس : (( هي تعرف أن الحب لا يتقن التفكير , والأخطر أنه لا يملك ذاكرة , إنه لا يستفيد من حماقاته السابقة , ولا من تلك الخيبات الصغيرة التي صنعت يوما جرحه الكبير , وبرغم ذلك , غفرت له كل شيء , قطعا كانت سعيدة , بهزيمتها التي أصبح لها مذاقا متأخرا للنصر)) .
سيبقى الحب سيد المواقف في كل الازمنة والامكنة , ورغما عنا افسحنا مقعدا ام كان بين المقاعد مسافات , لأن هالة الحب تخترق الارواح , فما بالنا بالاشياء ؟ سيضفي على الجمال جمال , وعلى القبح جمال , حتى عذابه والمه بلسم لجراح دمغتها خيبات سابقة , هو الضيف الوحيد المرحب به بلا اذن او موعد سابق , و أجمل إبتسامة هي عندما تبتسم لشخص ليس بجانبك ولكنه خطر على بالك , فلا تتردد والا ستظل مصابا بلعنة الانسحاب عن كل ماتحب , لن تقاوم الامواج , لن تتمسك بأحد , ستبقى كصبار في صحراء لا يقنع احد , بل ولا يريد احدا , اشواكك ستتكفل بالأمر لمن يقترب , اعتدت وحدتك , خيرا من جراحهم , انت في وحدتك , فارغ القلب والعقل والروح , يضربك الخواء ولكن لا تعاني , لا تتألم , لاتنتظر شيئا , لا تنتظرا احدا , وهذه كانت اخطر امانيك.
(( أُسمِّيكِ الملاك بما احتواهُ وأستثني بقاءَكِ في الأعالي
وما فنُّ اختيالكِ حين يجلو حقيقتهُ سوى فنِّ اغتيالِ
وما الحبُّ المؤجَّل غير حربٍ وما هذا المطال سوى القتالِ
فيا (ابنَ أبي ربيعةَ) إنّ (هندًا) على العهد القديم من المطال
اِإذا واعدتُها بيقينِ جذرٍ تعلِّقني بغُصن الاحتمالِ )) .