مقامة ارتقوا فالقاع ازدحم

مقامة ارتقوا فالقاع ازدحم

كأن جبران خليل جبران في سنوات الثلاثينات يقرأ المستقبل حين كتب : (( ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين , ويل لأمة تلبس مما لاتنسج , وتأكل مما لاتزرع , وتشرب مما لاتعصر , ويل لأمة تحسب المستبد بطلا , وترى الفاتح المذل رحيما ً, ويل لأمة لاترفع صوتها إلا إذا مشت بجنازة , ولا تفخر إلا بالخراب , ولا تثور إلا وعنقها بين السيف والنطع , ويلٌ لأمة سائسها ثعلب , و فيلسوفها مشعوذ , و فنها فن الترقيع و التقليد , ويلٌ لأمة تستقبل حاكمها بالتطبيل و تودعة بالصَّفير , لتستقبل آخر بالتطبيل و التزمير , ويلُ لأمة حكماؤها خرس من وقر السنين , ورجالها الأشداء لا يزالون في أقمطة السرير , ويلٌ لأمة مقسمة إلى أجزاء , وكل جزء يحسب نفسه فيها أمة)) .

 

يقول احمد خيري العمري ان : (( مبتكر مقولة ( ارتقوا فالقاع ازدحم ) كان متفائلا جدا ,فالهاوية لا قاع لها )) , وقد علق أحدهم : ((وضعت نفسي مشاهدا لأبصر هذه الحالة فأيقنت أن القاع ليس مزدحم بل السطح , حيث هناك مقولة جاءت هكذا (( ارتقوا فالقاع مزدحم )) , لكن لما تبصر جيدا سوف تدرك أن القاع حقا للغرباء , بينما السطح هو لمحبي الظهور )) , وعلق آخر : (( أغبياء من قالوا ان القاع فيه زحام شديد , الزحام الحقيقي والتزاحم علي السطح , هناك يطفو الكثير ممن لديهم مرض حب الظهور , هناك حيث التناحر والتباغض وحب الحياه , الجميع يريد ان يطفو ولو حساب الاخرين , اما القاع او العمق فهو المكان الوحيد الذي لايرغب احد في الذهاب اليه العمق مصدر القوه)) , وتابع معلق آخر : (( أرتقوا فمغييبي العقول قد أهلكوا الحرث والنسل , وعاثوا في الأرض فسادا , وهم يتسترون بثوب الأيمان والتقوى ويتباهون بطول اللحى , فهلا أعددتم العدة لأنتشال الناس من هذا الواقع المرير)) .

 

نجيد فن الشكوى فقط , يقولون ان كلمة قاع ليس فيها أمان , أما كلمة هاويه فهي تدعو لليقظة السريعة , يحضرني قول النبي ( ص ) : (( ارْتَقُوا فِي مُعَامَلاَتِكُم , فإن أكثر الناس قد قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ , وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُم )) , وهي دعوة للأرتقاء بالأخلاق ,فكونوا نبراسا في الأخلاق , إن ذُكرت الشجاعة فأنتم القوم , وإن ذكر الصدق فأنتم القوم , وإن ذكر الوفاء فأنتم القوم , وإن ذكرت العِفَّةُ فأنتم القوم , وإن ذُكر البِرُّ فأنتم القوم , وإن ذكر الجود والكرم فأنتم القوم , وما يُذكر خُلُقٌ كريم إلا وأنتم أوفر الناس منه حظا , فارتقوا عن القاع , تتبعكم دنياكم صافية نقية , وتشرئب إليكم أعناق الناس , وتكونوا مثلاً لغيركم في من نجى في زمن العجاب .

تذكرت ابو نؤاس وفن أرتقائه من تحت لفوق , فقد كان ابو نواس عاشقا متيما بالغلمان وشديد الولع بهم وفي ذلك يذكر أن أبا نواس وهو في زيارة للخليفة هارون الرشيد أُعجب بغلام جميل لدى الرشيد , وطلب أن يبيت عند الخليفة في تلك الليلة , فأمر الخليفة بأن يبيت أبو نواس على الأرض والغلام (أبو طوق) على السرير , لكن عندما أتى الصباح قدِم الخليفة , فوجد أبا نواس والغلام معا على السرير, وعندما سأله الرشيد غاضبا عن سبب عدم إطاعته لأوامره , أجابه أبو نواس قائلا (( هزّني الشوق إلى أبي طوق.. فتدحرجت من أسفل إلى فوق )) .

لما مات ابو نواس قيل لأبي الحسن : هلا تصلي عليه ؟ قال: لا , قالوا: لماذا ؟ قال: لأنه كان مجاهراً بالمعصية , فليصل عليه واحد منكم , فلن أصلي عليه , وقبل أن يصلوا صلاة الجنازة على أبي نواس لقي صديقه ورقة في جيبه , فأخرج الورقة وإذا بها آخر ما كتب : (( يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ و يستجير المجرم

ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم ))

فعندما سمع أبو الحسن هذه الكلمات قال : يرحم الله أبا نواس , هيا لنصلي عليه , فصلى عليه لأنه ميت يحسن الظن بالله .