كبار السن , الذين ينتظرون قطار المغادرة , يعرفون معنى الاكتظاظ , وأنه حالة من التزاحم الشديد في مكان ما , سواء كان ذلك في مكان عام أو خاص , حيث يتجاوز عدد الأشخاص أو الأشياء الموجودة في هذا المكان الحد المقبول أو المريح ,  يمكن أن يشير الاكتظاظ إلى التزاحم السكاني , أو التزاحم في وسائل النقل , أو التزاحم في المباني , أو حتى التزاحم في الأفكار والمشاعر, هنا بيت القصيد , مايهمهم هو أكتظاظ ألأفكار والمشاعر ,  وعليه قال شاعرهم : (( مات الهَوى فتعال نقسم إرثَهُ لي لهفتي ولك اكتظاظ سُكاتي , فتخير ما كان من أحلامنا  أما أنا فلقد أخذت الاتي , لي حسرتي إذ تعبر بخاطري ولك اقتناص الدرس من مأساتي , مات الهوى فتعال نقسم ارثه بيني و بينك و الدموع شهود , خذ انت مني ذكرياتك كلها وأنا ساحمل خيبتي و أعود )) , فيسمع الصدى لدى الشاعر الشعبي : (( انة براسي اكتظاظ بشارع البال محتاجك مرور اصفي بالي )) .

تخبرنا إليف شافاق عن ألأكتظاظ فتقول : ((كيف أخبرُك بطريقةٍ مُنمّقة أنّك بداخلي رغم المسافات والبُعد وانعدام الكلام , وإزدحام الأمُور السيّئة , كيف أخبرُك أنّك ثابت بِقلبي؟ )) , تشدنا الأيام المكتظة , فنتوه بين الناس بالأمل ونسير نحمل جرحنا الدامي العميق , ونظل نبحث في وسطه عن العهود الراحلة  , كالطير تبحث في الشتاء عن الصغار , مثلنا أنت من شجرة اكتظاظ , شجرة فاكهة حمقاء , بجذورها وأغصانها وأوراقها , يجيئها ذلك الطائر العابر , المهاجر , المغامر , الواقف على الفنن , متفيئا بالظلال , لاقطا حباتك في غفلة الوقت المقيت , لو لم تكن شجرة وارفة الظلال , ما دنونا منك , وما سعينا إليك , فهل نظل واقفين في حالة انتظار حتى تطير الطيور , فنحل محلها , والجوع مثل العطش , يبحث عن شجرة أو بئر لا اكتظاظ عليها , وتلك سنة حمقاء , فضلى .

(( زحمة يا دنيا زحمة )) , أغنية مكتظة , أكثر من قصيدة ناعمة , أو أغنية شعبية تفرض حضورها على الذوق العام , كارثة من كوارث عصر حديث مجنون ولاهث وغاضب وناقم , والأكتظاظ في الحب  مصطلح غير شائع في اللغة العربية , ولكن قد يشير إلى المعنى التالي : كثرة المشاعر أو الأحاسيس المرتبطة بالحب , أو ربما الإحساس بالحب بشكل مفرط أو مكثف,  وقد يعبر هذا المصطلح أيضًا عن (( الفيض العاطفي )) الذي يشعر به الشخص عندما يكون في حالة حب , أو قد يشير إلى (( الاهتمام الزائد )) بشخص ما في سياق الحب,  فعندما شعر الصّوفيّ محيي الدِّين بن عربي بالأكتظاظ قال: (( لقد صَارَ قَلْبِي قابلًا كلَّ صُورَةٍ/ فمرعىً لِغزْلَانٍ ودَيْرًا لرُهْبَانِ/ وبَيْتًا لأَصْنَامِ وكَعْبَةَ طَائِفٍ/ وألواحَ تَوْرَاةٍ , ومُصْحَفَ قُرْآن/ أدِينُ بِدِينِ الحُبِّ أنَّى تَوَجَّهَتْ/ رَكَائبُهُ فالحب دِينِي وإيماني)) .

(( ماتخليت عنك حتى حين صارت نفسك مكتظة ككتيبة تمشي فوق الضلوع بأناشيدٍ مُفخّخةٍ بالتوهج , جعلتك التعويذة التي تُهدهد النار داخل الماء, وترسم الفراغ بألوان الرحابة وتحشو القلب الطفلبأوهامِ الميزان , ميزان لا ينصف الضعف,  ولا يتّسع للكتيبة المنهكة في داخلي , وقد تذكرتك ذات حديث ,سقيتني دفئاً لم يكتمل , وتركت أضلعي للبرد ,وكأني أبحث عن فراغ أتمدد فيه , وحده البياض يتسع لشهوة الرؤيا , حيث تصير كل الأمكنة ممكنة ,وكأنك تسافر على متن سيارة , تصير أمكنة الاستراحة رهن إشارتك , والكلمات تذهب إليك بسخاء بين فجوات الفراغ , والطريق إليك محفوفة بالامتلاء , وحولك الاكتظاظ يحجب الكلمات عن عينيك , عن لسانك , عن قلبك , عن حواسك الخاسرة , وهي تتسكع في حديقة الروح , تبحث عنك شجرة مجاز تعانق غواية الفصول )) .

كلما اقتربتُ , ابتعدت , وكلما نسيتُ , تذكرت ,كغيمة تمطر مرةً ثم تذوب في الأفق ,

حتى الاحلام أصبحت ضيقة , تؤلمني المسافات , تؤرقني العثرات , تحاصرني عينيك في زوايا عالمنا المكتظ  , أين أجدك ؟ وأصابع الزمن  مشنقة ذهول وحيرة أفكار , ولأحتراقات الروح لغة انطفاءات الضوء ومسارب الذاكرة , وأنا بالقرب لكني غارقة في تفاصيل الصمت , وأتزاحم في بعض الفراغ ونصفي شاغر, اضغط على روحي , بالاستماع إلى مشروع خديعة لا تقبل التأجيل , وأنت تضغط عليّ بالحديث عما لا تدرك , فأخادع قلبي بلهفة تطاردني لأستظل بك , ثم أعود إليّ دون وعي.

من تجليات الفودكا : تخيلت عندما كَنَّتْ نَبْتَةٌ مِنْ نَخِيلٍ , طينية ناعمة , فى نسغ الأرض تتمدد بجذور مكتظة رقيقة عميقة, متربَّب بالعمر , من دراما وصمت, بالكاد أعيش في اللعبة العميقة , رأسى كما الشمس المحتضرة حيث الجرائم ,الدوافع , النظرات المدققة ,للجدارات المصمتة من الحنان , أطرق الأبواب مثل شجرة,ذاكرة , والعيون توثق , فتتساقط أكوام قذرة من خيبات الأمل , الكلمات مكتظة وبسيطة ,لا تسأل كثيرا , لا تبوح بما يفوق حاجتها , لكنها تترك في حديثها فراغات ذكية  ,  كأنها تدعو لاكتشافها دون أن تعطي خريطة , والقلوب أوعية , تستعبد مساحات العمر , تضيق بطقوس الحب الأعمى , وكي لا أقع في كارثة تشبه العشق , أتصفح غياب الحب في وجوه المحبين , وأتيقن أنك أمطار حزن لا غير , ففي محطة الانتظار دموع لا تعرف الانطفاء والعمر يداهمنا بالنزوح .

ومع أكتظاظ العاصفة , كان البحرُ يبتلعُ ضوءه , يمحو أفقهُ بخطوطٍ حادةٍ من الرمادِ والملح , كنتُ هناك , أراقبُ الموجَ وهو يُفكِّرُ , نعم , الموجُ يُفكِّرُ , يستديرُ نحو نفسه كعجوزٍ غاضبة , يبحثُ عن أسماءٍ غارقةٍ, لم تعد تعني شيئًا إلا للغريق , والغيمُ يُطرِّزُ سماءً عرجاء, ريحٌ تتحدثُ لغةً لا يفهمها إلا الجنون , وأنا؟مُمسكٌ بيديَّ الاثنتين على مجدافٍ مكسور , أدرك أن التيار ليس عدواً , بل امتحان يفتح أبواباً نحو اللامعقول , قال لي البحرُ:(( مَن يُبحرُ بلا وجهةٍ, يجد في الضياع وطناً ))فابتسمتُ , كأن شفتيَّ قد خُلقَتا للردِّ على الأقداربابتسامةٍ من نار , لم تعد السباحة ضد التيار خياراً , بل رقصةٌ , إيقاعها صمتُ الأحلام , وسقفها ذاكرةُ الشمس المكسورة , أصابع الموج تلوّحُ كأنها تقول : (( ارحلْ نحوالداخل , حيثُ التيار ليس سوى انعكاسٍ لأفكارك الهاربة )) , وفي أعماقي كنت أرى نفسي :جسدٌ يَتقدّمُ ببطء , لكنه مكتظ بالأسئلة , لماذا يعشق الماءُ افتراسَ الجسد ؟هل العاصفةُ هي الشاعر الذي فقدَ قافيتهُ , أم أنها القصيدة التي لا تريد أن تُكتب؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات