يقول فردريك نيتشه : (( دون موسيقى ستكون الحياة غلطة )) , ترى هل الأغاني تؤثر على صحة الإنسان العقلية والروحية ؟ و هل سماع الأغاني وعشقها يصيب الإنسان بالإدمان؟ وما السر النفسي وراء تلاعب الموسيقى بمشاعرنا ؟ تتسامى ألأرواح وتبتهج عند سماع ألأغاني التي تضرب على وتر ألأحاسيس , وتسحبها الى فضاءات من عشوائيات موسيقى غموض الأرواح السارة , وتندفع الحناجر بمقامات عالية القرار تتبعها بستات تسحب نياط القلوب .
تغني نهاوند من كلمات والحان الفلكلور السوري اغنية يقول مطلعها : ((يا فجر لما تطل .. ملون بلون الفل ..صحي عيون الناس .. محبوبي قبل الكل )) , تلك ابيات كتبت بماء الذهب , وكتابات تحاكي القلوب , أي مشاعر فرح وهياج وعاطفة تطلقها هذه الكلمات البسيطة , هذا هو التَكثيفٌ الوُجودي للمَعنى الشِّعْرِي على الصعيدَيْن النَّفْسِي والاجتماعي , وتَجميعٌ لِشَظايا مُوسيقى اللغةِ في صُوَرٍ فَنِّية عابرةٍ , وهذه كلمات مُسافرة أبدية إلى رُوحِ المتلقي وفلسفته.
الفرح هو لذة في القلب لنيل المشتهى , والكلمة ترادف السرور والحبور والجذل والغبطة والبهج والارتياح والاستبشار والاغتباط وَ الرِّضَا , وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ المؤمنون: 53وَالسُّرُورُ وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ آل عمران 170.
تقوم الطريقة «المولوية» على عناصر ثلاثة أساسية هي : الموسيقي , الرّقص , وإنشاد الشعر, وحصراً شعر مؤسّسها جلال الدين , وهو القائل : ((هناك طرق عديدة تؤدّي إلى الله , وأنا اخترت طريق الرقّص والموسيقى )) , لخص «الرومي» عظمة الموسيقى بقوله : (( في توقيعات الموسيقي يختبئ سرّ لو كشفت عنه لتزعزع العالم )) , فالموسيقى , إحدى الركائز الأساسية في المولوية , وتسمى (السمع) , ويعتبرها مُريدو المولوية, رحلة روحية تسمو فيها النفس إلى أعماق العقل والحب وطريقاً للوصول إلى الكمال , والشاعر الشيخ , الذي كان تصوّفه مزيجاً من الروحانيَّة والحِكمة , غاص في أعماق الإنسان , ففاضت أشعاره في كل المعمورة حُبّاً وحِكمةً , ليبلغ أرقى درجات العبقريَّة الشعريَّة , من عقله وقلبه , بزغت شمس موسيقى نايٍ حزينة , جذابة تعبر عن قهر المظلومين , وانسجمت معها رقصة (المولوية) التي سبت العقول على مدى سبعة قرون متواصلة ولا تزال , فعلماء الموسيقى يعتبرون أن الطريقة المَولوية الصوفية , هي المؤسس والمسؤول الأول عن ظهور واستمرار هذه الموسيقى .
هل تذكرون أغنية نجاة الصغيرة ( ساكن قصادي ) التي شكلت الضمير العاطفي لأيام مراهقتنا في الستينات ؟ أتذكرون تلك الموسيقى البهيجة التي تسبق مقطع : ( وفي يوم صحيت على صوت فرح , بصيت من الشباك … زينة وتهاني وناس كتير دايرين هنا وهناك .. شاورولي بإيدهم وقالولي عقبالك ) , كيف تشعرنا الأنغام بقدوم مشهد الأفراح قبل ان تبدأ نجاة بالكلام , فننسى أنفسنا ونتفاعل معها بطرب أخاذ ؟ موسيقى تراها الناس وهى تسمعها , يالها من مشاعرسارة تبث في صدورنا فلا نعلم كيف نستهام , لازلت أتأمل تلك الموسيقى بعقلي , فيرتوي قلبي , ويمس رُوحي شغفُ الانبعاث.
وللشعراء شموع تحترق في نزيف الكلمات , تجمعنا مع النص , تجليات موسيقية ترفعنا الى درجة الملكوت , وقد تَخْدِشُ الرُوحَ أحزانٌ فتبكيها , فتبحثُ الرُّوحُ عن رُوحٍ تُسَلّيها , داويتُ بالأمسِ أرواحًا مُجَرّحةً , واليومَ تُجْرَحُ رُوحي مَنْ يُدَاويها ؟ فياحبيب الروح تسامى وقل للمدى .. كيف مات الورد واعتل الندى…أنا في اشتياق وفي ترياق أغانيك هدى.. زد لصلاتك ركعا , وزد للقبل رطبا .
الغناء والموسيقى ليس الصوت العذب فقط , وإنما جدلية الصوت مع الصمت , تراقص الأضداد الذي يصنع لهذا الكون طعما , ربما ومتى تحقق ذلك المرور إلى ساحة الهناء , تعرج تلك الروح في مقامات من العلو الذي يخول لها استلهام الحقائق التي تعرض لها في مستقبل الأيام , لتبني لها صرحا مجيدا قوامه انسان محب , ذلك الشعور الذي نحسه و تستجيب له حواسنا بتلقائية , بل سيصبح انتقالا لحال أفضل كان لابد منها لنصبح أقوى و أعلى و أنقى , هو سمو لمعارج النور و الجمال الروحي .