المجموعة البشرية التي تسكن العراق هي خليط لأقوام وموجات هجرة جاءت من أماكن أخرى لأسباب عديدة وسكنت الأرض التي تسمى الآن العراق ( في الحقيقة أرض ما بين النهرين). وهذه الأقوام ليس بينهما تشابك جيني أو تشابه أثني، وهذا نتج عدم تجانس ونقاط هشة في التركيبة السكانية التي إتخذت من أرض ما بين النهرين مساحة أرض مناسبة لبقائها ، وبسبب الإختلافات الجينية والأثنية، عانت وتعاني هذه المجموعة البشرية من حالة تشتت بين مكوناتها العديدة التي لم تنجح العصور كلها في خلق حالة تناسق بينها وإن ظهرت كذلك في بعض الفترات ، لكنها لم تكن إلا غطاءاً لما تحته من حالة معكوسة هي الواقع، وعند ذهاب ذلك الغطاء مع تجاذبات كل طرف يظهر حقيقة عدم التجانس وأخاديد تشقق عميقة بين المكونات إلى درجة التباعد الخطير والصراع رغم التواجد على أرض مشتركة.
ويزداد التشتت عنفاً ويصبح دموياً في حال صراعات دينية وطائفية وقومية تذكر هذا الخليط بأصوله التي أنخدر منها تجاه أرض ما بين النهرين، فيتحرك فيهم الولاء الديني والطائفي والقومي بحسب أصل إنتماء جذورهم فيتحركون تجاهه على أرض يقفون عليها دون ثبات إنتماء، لأنها أرض سكن ومستوطن ولا جذور لهم في أعماق هذه الأرض.
هذه الحالة غير متواجدة في دول تسكنها شعوبها أو مجموعة بشرية تنتمي لأرضها، كمصر والهند، أما في حالة الدول الناشئة كالولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وكندا وغيرها، فأن الإمتيازات المعيشية التي تعيشها فيها تلك الأقوام التي أنشأت تلك الدول قد أذابت التناقضات الجينية والأثنية، رغم أنها قد تعود ( وقد عادت في الموجات الإرهابية التي قادتها الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين في تلك الدول الناشئة) أو في حالة الدفاع عن العرق الذي أنحدروا منه كما حصل قبل أيام في ولاية ميريلاند من حالات نهب وحرق قام بها الأمريكيون من أصول أفريقية دفاعاً عن أصلهم ولونهم الأفريقي.
وبالعودة للحالة العراقية، نرى أن تلك المجاميع ترى في أرض العراق موطناً لها لأنها مجاميع إستيطانية، وذلك يشرح وجود حالات وطنية عراقية أو إتجاهات وطنية ، لأنها تدافع عن أرض أستوطنتها وهي ليست أرض خلقت منها، أي هناك حالات وطنية عراقية وهي قليلة جداً، لكنها تبقى حالات وطنية وليست حالات إنتماء، أي أنها لا تدافع عن إنتمائها العراقي بل تدافع عن وطنها العراق، والإنتماء الواضح هو للإنتماء الديني والعرقي الذي جاؤوا منه، وهذا هو السبب في غياب مشروع إنتمائي عراقي يحمل الحل الصادق للعراق، بل أن الحلول جميعها – إن أتفقنا أنها حلول مجازاً وليست حقيقة – هي حلول لكسب إمتيازات (وليست حقوقاً) لهذه الفئة من المجموعة البشرية أو تلك، وذلك واضح في غياب رمز عراقي يتفق عليه الجميع، بل هناك رموز وطنية (في كل عصور الدولة العراقية) تنجح في كسب فئة أو مجموعة معينة لها دون الأخرى، فيتسبب ذلك الإستقطاب في نفور المجاميع بسبب الخلاف في النظر إلى رمز كل فئة من تلك المجموعة البشرية التي أسست سكان أرض الرافدين أو ما نسمع عنها في الأخبار ( الشعب العراقي) رغم عدم صحة هذا التعبير الإعلامي.
وكمثال على ذلك، فأن فئات معينة من سكان العراق يميلون للأسرة المالكة وفئات أخرى تعتبر عبدالكريم بطلاً ورمزاً عراقياً، وزعيماً وطنياً وفئات أخرى تراه مجرماً، وكذلك بالنسبة للرموز الأخرى التي حكمت العراق مروراً بصدام وما بعد 2003، وظهور رموز كانت مغيبة، رغم قوتها وسطوتها إلا أنها ظلت رموزاً فئوية وطائفية أو قومية ولم يكن هناك أي رمز يتفق عليه جميع من يسكنون أرض ( العراق).
ولأنها حالة معقدة جداً، فأن الحل يكون في منع الظروف التي تجبر المجموعة البشرية في أرض العراق على أن تدافع عن أصلها القومي والأثني ثم الفئوي والديني، وعدم التركيز على رموز فئوية ، وتقليل الخطاب الذي يركز على الإنتماء الديني أو القومي أو الأثني، فقد فشل المشروع العراقي تماماً بسبب عدم وجود للأمة العراقية تهمها العراق كأرض خلقوا منها، تهمها أن تبقى أرضاً صالحة ، بل أن المجموعة البشرية تتعامل مع أرض العراق (مستوطنتها) كحصة فوز ، وهذا ما نتج تماماً المحاصصة والدفاع عن المحاصصة رغم أننا قطعنا بلداناً وراء البحار لنستورد ديمقراطية، ثم نقول بعد كل إنتخابات (رغم الخلاف على حقيقتها أو نزاهتها) بأن التوافق هو الحكم الأمثل وليست نتيجة الإنتخابات! ونعلم تماماً أن التوافق نقيض الديمقراطية، ففي حالة التوافق يجبر البعض على أن يوافق على شيء مضطراً من أجل نيل إمتياز معين ضمن الحصة التوافقية، وليست مثل الديمقراطية حين يكون من حق الفئة الفائزة التمتع بكل الإمتيازات في مشهد تغيب فيه الحصص والتوافق في الأراء والرؤى.
فالحصص بين مجموعة بشرية تختلف في أصولها التاريخية والأثنية (كتلك المجموعة التي أستوطنت العراق) هي قنابل موقوتة تنتظر الفرصة أو اليد التي تسحب الصاعق لتنفجر، وتلك اليد حاضرة أبداً رغم أنها تكون في الجيب في أحيان كثيرة مواربة أو تخفياً، لكنها تكون ماسكة للصاعق لتسحبها في أي فرصة لينفجر الوضع كما نرى ونرى ونرى بصورة مكررة في المشهد العراقي اليومي، بل الساعاتي إن صح التعبير أو سأسجل هذا التعبير لنفسي.
على من يبحث عن الحل (ولست منهم ولن أدّعي لنفسي بأني أملك الحل) البحث أولاً عن آليات وقف الخطاب الديني والفئوي، والإبتعاد عن الظروف التي تمنح لكل فئة من تلك المجموعة البشرية الحق الغريزي في الدفاع عن وجودها في مستوطنتها، فالإنسان من أكبر إمام إلى أحقر وضيع كله كائن حيواني، يتبع غريزته في البقاء والدفاع عن صنفه وجنسه في حال وجود خطر على مكان سكنه ، وهذا يحصل في أرض الرافدين أو العراق كما تحبون أن تسمعوه رغم أن أرض الرافدين هي التسمية الأصدق لهذه الأرض.
مرة أخرى، هناك حالات وطنية ، نعم وطنية تدافع عن وطنها (المستوطن) العراق، لا غبار على وطنيتها، لكنها حالات غير ذات إنتماء ضارب في أرض العراق، كما في مصر، أو الهند، أو حتى إيران وتركيا، وروسيا (الروس معروفون بعنصريتهم القومية) ، ففي تلك البلدان، يكون الخطر واحداً يهدد الجميع، وليس كما في العراق، فعلى طوال تاريخ الدولة العراقية الحديثة ، لم يأت خطر هدد الجميع ، وحتى الطاعون الذي ضرب بغداد في عهد داود باشا، فأنه ضرب مجموعة لم يهدد أخرى ، بل أن الفئة التي كانت في مأمن لم تسرع لمساعدة الفئة المهددة بالهلاك، بعكس الأمة المصرية أو الهندية أو الفارسية أو التركية، ففي وجود أي خطر خارجي ، فان ذلك يكون خطراً عاماً يهدد الجميع، وتلك حالة غائبة في العراق في كل صراعات العراق الخارجية، إذ نجد هناك طرفاً يميل للوقوف بل ومساعدة الطرف الخارجي على السلطة الحاكمة في العراق، كما حصل في الحرب العراقية الإيرانية وفي حرب 1991 وفي حرب 2003 وسيحصل في الحروب القادمة إن شاء تجار السياسة والسلاح.
هذا كلام بعيد جداً عن الخداع الذي لبسناه دهراً طويلاً ، في القول بأننا عراقيون، وحان الوقت لنعلن بأن لا وجود لعراقي، بل مستعرقون، ولا وجود للشعب العراقي، بل مجموعة بشرية أستوطنت وسكنت العراق، وهي الآن مستعرقة تحمل إسماً مزيفاً هو ( الشعب العراقي).
بوساتي للجميع…فأني همين واحد منكم…من المستعرقين .