23 ديسمبر، 2024 3:53 م

مقاربات في الشعر والسرد.. شهادة عن الإبداع العراقي الحديث

مقاربات في الشعر والسرد.. شهادة عن الإبداع العراقي الحديث

من ابرز السمات التي يتصف بها كتاب الكاتب جاسم العايف  (مقاربات في الشعر والسرد)* احتفاؤه بالانجاز الشعري والروائي الذي يصدر لكتاب عراقيين من مختلف الأعمار ، ويتضح ذلك جلياً في المقدمات التي تتصدر كتاباته ،وهي تسرد السيرة الأدبية والمعاناة التي عاش ضمن ظروفها الشاعر أو الروائي ، وهي سيرة تحمل التقدير والاحترام الكبير لهؤلاء المبدعين . يضاف إلى ذلك أن هذه السيرة عبارة عن رحلة في الزمان تتجلى فيها العلاقات الخاصة ،التي تتسم بالعذوبة والصفاء ، وبعلاقتها بالجو السياسي والاجتماعي المؤذي والمخرب الذي يحيط هذه العلاقة ويؤطر الإنتاج الشعري والقصصي الذي كتب في تلك الفترة .وهناك أمثلة عديدة تتناول هذا الجانب ، ففي تناوله لمنجز الشاعر (مهدي محمد علي) ، يضع عنواناً لافتاً (مهدي محمد علي : شجرة مثمرة ..ومنجز غمرته الظلال) يلخص فيه إنتاج هذا الشاعر والظروف التي أحاطت بحياته وهو يتنقل في المنافي ، بعيداً عن وطنه ومدينته الأثيرة البصرة التي ظل أكثر من ثلاثة عقود خارجها ، مصراً على تذيل قصائده بـ( البصرة…)ويضع المدينة التي هو فيها بعدها مثلا (البصرة- طرابلس)أو( البصرة – موسكو) وأخيراً( البصرة- حلب) ولا يكتفي بهذه المعلومات من سيرة الشاعر أو الكاتب  بل انه يعمد إلى تحليل ونقد احد منجزات الشاعر أو الكاتب ، فقد تناول بالتحليل ديوان الشاعر مهدي محمد علي (رحيل عام 78) ملاحظاً أن الشاعر استثمر (ثنائية الحضور -الغياب،حضور الذاكرة – الماضي- وغيابها الآني ، استدلال الأمكنة والأحداث والأشخاص بوضوح ، محاورتهم ، طغيان ملامحهم ، الاحتفاظ بأدق الخصائص الواقعية للمشهد -الماضي القابع في الذاكرة – غياب الوطن في المنفى واختراق المنفى ذاته في حضور الوطن ، الناس ، الأحداث ، الصلات اليومية(ص13).وحين يكتب عن الشاعر حسين عبد اللطيف فأنه يسرد بعضاً من سيرته الشعرية كاحتفاء الشاعر ادونيس به حيث نشر له (في العدد الثاني من مجلة مواقف مجموعة من القصائد (…) وقد أكد ادونيس ومن خلال تعريفه بحسين عبد اللطيف أن العراق بشبابه من الشعراء يضيف نكهة خاصة متميزة لبيت الشعر العربي الممتد عميقا في المكان..(ص19)ثم يوضح دور الشاعر حسين عبد اللطيف باهتمامه الشديد بالعديد من الأدباء الشباب في المدينة .وعندما يتناول ديوانه الجديد (بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة – متوالية هايكو) يرى” أن لا تراث يعتد به لهذا النوع من الشعر في الخارطة الشعرية العراقية والعربية حتى (ص21) ليؤكد أن المجموعة فيها الكثير”من الاهتمام بالطبيعة الجنوبية والبصرية بالذات ، التي يمكن الرجوع إليها في المجموعة التي تحتشد بأسماء بعض الأماكن وسماتها وتلك الحيوات الهشة الموسمية في دأبها الدائم على مواصلة الحياة على الرغم من معوقات الطبيعة ذاتها (ص23) وعلى الرغم من توفر عناصر قصيدة الهايكو في ديوان الشاعر حسين عبد اللطيف كالاحتفاء بالطبيعة واحيائها وقصر هذه القصائد وكثافتها اقتراباً من قصيدة (الهايكو) ألا أن الكاتب جاسم العايف يصفها بعيداً عن هذا المعنى حين يلاحظ أن قصائد الديوان”ليس سوى صدى أو تشابه مع قصائد الهايكو (ص22) ثم  يتمنى على الشاعر ((ألا يلحقه بـ”الهايكو”بل يكتفي بما ذكره كونه (ومضات)أو ما أطلق عليه بـ(توقيعات)ولحسين في ما فعل اجتهاده وهو حر فيه(( (ص22)ولم يعط الكاتب سببا لتمنياته  أو  توصيفاً يناسب اقتراحه بان يكتفي الشاعر بـ( ومضات أو توقيعات).وعند تناوله مجموعة(على جناح ليلكة)للإعلامية أطوار بهجت يعلق الكاتب على مصيرها الفاجع وما تعرض إليه موكب تشيعها باعتباره “من المشاهد الواقعية اليومية التي تختص (دراما) الحياة العراقية الراهنة ..مشهد لا ينجو منه يوم من أيام العراقيين ، وهم يعانون مخلفات سنوات القهر والقمع والدماء والحروب”( ص36) ثم يتناول مجموعتها هذه بعناية خاصة مكثفاً أجواءها ” بهموم وجودية – عاطفية ، جهدت فيها الشاعرة أن تترسم حياتها اليومية الدافقة وروحها العالقة-المعذبة بين الحضور والغياب بثنائيات”( ص36)ويخلص إلى أن هذه المجموعة الشعرية ((اقرب لـ”مدونات يومية شعرية”تفتقر إلى قلة الخبرة(الفنية- الشعرية) مع عدم الاهتمام بـ(الإيصال). وقد تضمنت المجموعة هواجس وخواطر متراكمة بسيطة غير معقدة لكنها من جهة أساسية تتفجر بعواطف ومواعيد سرية- وجدانية وألوان وأفراح وأحزان إنسانية ذاتية، شخصية متباينة)) (ص39).ثم يتناول( أغنية حب)  المجموعة الشعرية للشاعر مهدي طه ،  ويستغرق طويلا في سرد مكابداته مع استبداد النظام السابق ، إلى حين” العثور على جثته غريقاً في الثلاثين من أيار عام 1975 بالقرب من نهر الحكيمية ،ويجاور النهر:مديرية مخابرات المنطقة الجنوبية و مديرية استخبارات البصرة” والكاتب إذ يسهب في تفاصيل العذاب الذي تعرض له الشاعر قبل غرقه ، فأنه يقدم شهادة معاناة ومكابدة عاشها المبدع العراقي في البصرة أو المحافظات الأخرى وهي خلفية مؤثرة في النتاج الشعري والقصصي ،ويذكر الكاتب أمثلة بأسماء الشعراء والفنانين والكتاب الذين تعرضوا لموت مفاجئ ( يشبه غرق الشاعر مهدي طه) وهم حميد كاظم ( القاص سمير أنيس) وسعدون حاتم (الشاعر آدم حاتم)كلاهما قتلا في لبنان والقاتل مجهول !؟.(…)الشاعر قيس حيدر اعدم بتهمة الانتماء لحزب محظور (ص30)،ثم يكثف الكاتب وجهة نظره في شعر الشاعر  مهدي طه قائلا: “لدى مهدي طه ارتفاع صوت الأنا عالياً في شعره ولا مكان لتعدد الأصوات في قصائده مما قلل مساحتها العامة ومنعها من الخروج عن ذاته المغلقة”(ص33) كما يلاحظ بعض الهفوات والسقطات الشعرية(البريئة بالضرورة) وهو يعزوها إلى العمر والتجربة القصيرة. ويضم القسم الأول من الكتاب  إضافة لما ذكرناه موضوعات تتناول مجموعات شعرية ونقدية عن الشعر 🙁 فجائع عازف آخر الليل،بداية البنفسج البعيد،جدل الشعر والرسم في قيم تشكيلية عراقية،قصائد النثر العربية : مشاهد ورؤى متعددة،أنشودة المطر.. قراءة جديدة..وغيرها).ويختص  القسم الثاني من الكتاب بالسرد وهو يتناول :(كوكب المسرات : شهادة جارحة..تعدد التجنيس،أفراس الأعوام :تاريخ وطن..تحولات مدينة ، روايات غائب طعمة فرمان: برلمان الحياة العراقية ،أوراق جبلية : تجربة ذاتية وتنوع المنظورات الإدراكية ، مدن الرؤيا: قراءة مجاورة، انكسارات مرئية : محاولة اختزال المألوف والشائع).في رصده لكتاب( كوكب المسرات ) للقاص محمد سعدون السباهي ، يلاحظ الكاتب جاسم العايف ، تعدد التجنيس فيه، فالسباهي يكتب على غلاف كتابه “سيرة ذاتية من يوميات سجين” (ص85) ثم يهديه نصاً: “إلى زوجتي..واصغر الأبناء الشجاعَيْن اللذين بواسطتهما هربت مسودات فصول هذه (الرواية)” ، ويكرر وصف كتابه بالـ(رواية ) في صفحات غيرها.ثم “يورد السباهي الملاحظة التالية  في نهاية كتابه :” تاريخ كتابة النص” (ص89)..”وبهذا أطلق السباهي أربعة( أجناس) على كتابه فهو أولاً : سيرة ذاتية ، وثانياً : يوميات سجين، وثالثاً: رواية ،ورابعاً: نص”( ص89).ومن خلال هذا التجنيس المتنوع لكتاب (كوكب المسرات) لاحظ العايف” أن السباهي كان المراقب للجميع عما يحيطه ويحيطهم لذا روى براءة بعضهم والالتباسات التي وضعتهم في هذه الجحيم ، وهذا الجانب يمكنه أن يسهم في توسيع فرص التنويع ، واللعب الفني- السردي على المنظورات الإدراكية” (ص86).وعن رواية (أفراس الأعوام ) للروائي زيد الشهيد ،الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة دار الشؤون الثقافية لعام 2011 يكتب قائلا: “تدخل رواية (أفراس الأعوام)ضمن الرواية التي تستفيد من سجلات التاريخ ، فهي تروي بسرد شفاف يتداخل فيه الزمن والتاريخ في العراق، بالتشابك مع الوقائع العينية للحياة اليومية ، ونمط العلاقات المتعالية للفئات العليا في السلم الاجتماعي”(ص92)ويلخص الكاتب الأحداث التي سردت في هذه الرواية  ممثلة بالحياة اليومية خلال سلطات العهد العثماني “المتلفعة برداء الدين الإسلامي وحكمها الفاسد الجائر الناهب للخيرات العراقية بحجة إسلاميتها” (ص93)وكذلك الأحداث قبل وبعد دخول القوات البريطانية إلى العراق عام 1914 وما جرى بعدها من أحداث دامية واجتياح مدينة السماوة من ” قبل وحوش الوهابية ، سلالات الفكر الصحراوي والقرى القاحلة”(ن. ص )ويخلص إلى نتيجة تقول: ” في رواية (أفراس الأعوام)يهاجر الروائي زيد الشهيد من الحاضر إلى الماضي للامساك به وبأحداثه المهمة وبنوع من الثبات الفني- السردي القادر على تناول ذلك أو بعضاً منها لان من الطبيعة المهمة للسرد أن يقترب من شؤون الحياة وناسها”( ص99).بعد أن يتساءل الكاتب جاسم العايف عن جنس كتاب ( أوراق جبلية) للروائي زهير الجزائري وهل يقع “ضمن سرد التجربة الشخصية ، عند التحاقه بفصائل (الأنصار) في كردستان العراق ، ونزعة رواية التجربة ، بعد معايشتها ومعاينتها بكل التباساتها وخساراتها ودمويتها (…) لتكون شهادة موثقة لزمن كان فيه مشاركاً ومراقباً وشاهداً”( ص107) ليسارع إلى تأكيد سؤاله واعتبار ( أوراق جبلية ) “سيرة  توثيقية، والسارد  فيها هو  الجزائري بالضرورة”( ص107).وعلى ضوء هذا الرأي قرأ الكاتب العايف (أوراق جبلية ) باعتبارها تحمل الكثير من الحقائق الواقعية التي عاشها الروائي الجزائري ولم ينتبه،العايف، إلى أمرين  وردا في قراءته هذه :الأول يتعلق بـ”الأشخاص المرافقين للجزائري وتجربتهم وكأنهم ملائكة مطهرة من كل آثام أو أنانية أو أحقاد أو منافع”( ص107)الأمر الذي أسهم “على نحو ما في تقليل  فرص التنويع على المنظورات الإدراكية وافقد السرد اليومي مرونة التحرك بين المواقع المتبدلة للأصوات والشخصيات المشاركة” (ن. ص) وبذلك حكم على شخصيات السيرة باعتبارهم شخصيات روائية وليسوا شخصيات سيرية ، أما الأمر الثاني فيتعلق” باستعادة الروائي الجزائري أوراقه القديمة المفقودة عن طريق احد رفاق الجبل ثم  يعيد كتابتها أو ينقحها ويضيف إليها بعد أكثر من عشرين عاما على صدورها عن دار نشر جبلية وهمية اختفت من الوجود تماماً”(ص108)  وهي تقنية روائية تعمدها المؤلف  للإيهام بحقيقة الأحداث والشخصيات التي وردت في السيرة باعتبارها أحداثاً حقيقية وليست روائية ،غير أن (الكاتب العايف) لم يقرأ هذه الأوراق باعتبارها رواية تستثمر السيرة وإنما قرأها  على وفق العديد من الوقائع التاريخية التي باتت معروفة لنا جميعاً التي وردت فيها ، مؤكداً على جوهر الصراع الدامي بين السلطة الحاكمة ضد خصومها السياسيين والذي يتصف بالقسوة والبشاعة من اجل القضاء على” المخربين ،حسب منطقها  ، ويعني ذلك واقعياً تحويل الأرض في بعض مناطق كردستان إلى فراغ خال من البشر”( ص108) ومن خلال إعادة الكتابة يتوفر للروائي، الجزائري، صورة أخرى لقسوة  السلطة الجديدة وتجبرها ومن” الذين قاتل معهم السلطة السابقة، وصاروا رجال السلطة البديلة فهو يطالبهم (بعدم النسيان ) لان (من ينسى الماضي محكوم عليه بتكراره حسب ما يقوله جورج سانتيانا”(ص109).ويورد العايف، عينات للذين” دوت القذائف في آذانهم ولعلع الرصاص قربهم وترك جروحا أو عوقا على أجسادهم  (..) وبعضهم بات جثثاً غرقى محنطة في متاهات الثلوج إلى الأبد”( ص110).في القسم الثالث من هذا الكتاب يقدم الكاتب كتابين عن المسرح احدهما كتاباً للدكتور كمال عيد عن نشأة المسرح العالمي يعارض فيه “إن الأصل في المسرح والمسرحية انهما قد خرجا من المسرح اليوناني القديم” ويؤكد إن” التجربة المسرحية الأولى هي تجربة وادي النيل والثانية في وادي الرافدين”( ص131).إما الكتاب الثاني فهو كتاب الناقد المسرحي الراحل حميد مجيد مال الله ( التدوير الدرامي )الذي يضم (بعض مقالاته ودراساته التي نشرها منذ تشرين الأول عام 2003 ولغاية شباط عام 2009) لتبقى مقالاته التي كتبها منذ بداية السبعينات حقلاً يحتاج إلى مَنْ يجمعه في كتاب ، فهي مقالات متخصصة بالنقد التطبيقي كتبها الراحل منذ أوائل السبعينات وفيها” قراءاته ومتابعاته النقدية للعروض المسرحية التي حضر عروضها في البصرة وبغداد وسواهما من المحافظات”( ص135).وعن كتاب الراحل خليل المياح (استقلالية العقل أم استقالته!؟)يلاحظ (العايف) أن هذا الكتاب يضم مقالات تسهم في فهم (جوهر المعنى الفلسفي ) وقد كان مسعى الراحل المياح “في اغلب مقالات كتابه البحث والتنقيب في المقولات الماركسية الكلاسيكية وأراد المزاوجة بينها وبين الحداثة ، في محاولة منه لقراءة الأطروحات السياسية- الدينية الراهنة لغرض تفكيك بنية خطابها الديني والمذهبي في هذه المرحلة التي تشهد صعوداً غير مسبوق للهويات الدينية الفرعية”( ص142).وناقشت مقالات الكاتب الراحل (خليل المياح) تقديس التراث من قبل بعض السلفيين مؤكداً: “انه ليس قيمة بحد ذاته ،إلا بقدر ما يعي من قيمة علمية في تفسير الواقع”( ص143).لقد كان كتاب الكاتب جاسم العايف،(مقاربات في الشعر والسرد)، سياحة في بستان الإنتاج والإبداع العراقي في أجناسه المتنوعة : الشعر والقصة والرواية ،والمسرح والترجمة ،بوجهة نظر تعتني بهذا النتاج ،وكِتابه وتستكشف مضامينه الإنسانية وأشكاله المتنوعة ، وبذلك فهو اسهامة جادة ، جديرة بالقراءة ،للتعرف على هذا النتاج وعلى سيرة من كتبوه ومعاناتهم ومكابداتهم حين اختاروا طريق الكتابة الوعر والشائك.
* منشورات: مجلة الشرارة- النجف- 2013/الغلاف: الفنان هاشم تايه .