قراءة وتحليل)
ان المهمة الأساسية للقرارات القضائية هي بيان الاحكام التي وصلت اليها المحكمة في ضوء المنازعة التي تنظرها، وبعد المرافعة فتصدر الحكم القضائي الذي يوضح قبول الدعوى او ردها كلا او جزءً، لكن للاحكام القضائية أدوار أخرى، لا تقل أهمية عن الفصل في النزاع، فهي تسهم في قياس جودة التشريع، وبيان نقاط ضعفه، ومدى انسجامه مع الواقع، والحاجة الى تعديله، كما يسهم الاجتهاد القضائي المتمثل بتلك الاحكام في اثراء الجانب المعرفي لدى المختصين في علم القانون وفن القضاء، ويؤدي دوراً فاعلاً في نشر الثقافة القانونية في المجتمع، ومن هذه الغايات التي يهدف اليها الحكم القضائي تجد كثيراً من العاملين في المجال القانوني والقضائي والحقوقي بشكل عام يدرس ويحلل الحكم القضائي، اما بالتعليق او القراءة العامة،
وحيث ان القضاء الدستوري سواء في العراق او في الخارج يعد الجهة القضائية العليا، وان احكامه تمثل خلاصة الفكر القانوني لكبار الحكام، وكان دستور العراق لعام 1925 يطلق على أعضاء المحكمة المختصة بالقضاء الدستوري ( كبار الحكام)، ومن خلال الحرص على متابعة كل ما يصدر من احكام للقضاء الدستوري، التي تنشر جميعها في موقع المحكمة الاتحادية العليا الإلكتروني، وهو امر لابد من ان نقدم الشكر لمن أسس لهذه الفكرةمنذ تشكيل المحكمة الاتحادية العليا عام 2005، بإتاحتهالعموم الجمهور وبأيسر السبل، وعند قراءة قرار المحكمة الاتحادية العليا العدد 44/اتحادية/2025 في 22/4/2025 لفت الانتباه الى مصطلح ورد فيه يتعلق (بالدعاوى الحسبية)، حيث ذكر في القرار ان الدعوى الدستورية ليس من (دعاوى الحسبة) وعلى وفق الاتي (لا مصلحة للمدعي في طرح هذا الموضوع على هذه المحكمة ذلك أن الدعوى الدستورية وإن كانت تتضمن ابعاداً تستهدف تحقيق مصالح عامة فيما تستهدفه إلا أنها ليست من الدعاوى الحسبية التي يسوغ لكل من شاء اقامتها)،
وما استوقفني في القرار محل البحث ما ذكر فيه بان دعوى الحسبة يجوز لاي شخص ان يقيمها حتى لو لم يملك المصلحة فيها، وهذا المفهوم الذي تبنته المحكمة في توصيف (دعاوى الحسبة) قد يكون غير مسبوق حتى لو أوردته على سبيل التشبيه في حيثيات الحكم، لان قواعد المرافعات العامة تعتبر شرط المصلحة أساس في كل دعوىبل ان المحكمة الاتحادية العليا تكاد تكون قد افاضت كثيراً واكثر من سواها في ذلك، عندما سارت بنحو رد الدعاوى بسبب تكييفها وقراءتها للمصلحة في الدعوى، وكان لنا قول في هذا الصدد في اكثر من موضع سواء بالكتب التي صدرت لي او بما نشرته في الصحف والمواقع الالكتروني، واخرها المنشور الموسوم (من هو المدعي الذي تتوفر فيه المصلحة عند إقامة دعاوى حماية المال العام امام القضاء الدستوري؟)
ولغرض معرفة ماهية دعوى الحسبة وهل فعلاً يجوز لاي شخص اقامتها، سأعرض لها مع الإشارة الى بعض الملاحظات حول القرار أعلاه وعلى وفق الاتي:
لكن في قانون المرافعات وعند تنظيم دعاوى الأحوال الشخصية لم يرد فيه نص خاص في دعاوى الحسبة او الدعاوى الشرعية وهي في العادة (دعاوى الزواج والطلاق والتفريق والنسب)، وبذلك فان الدعاوى الشرعية والتي تتعلق بدعاوى الحسبة لابد من توفرها على الشروط التي تطلبتها نصوص قانون المرافعات المدنية وهي (الاهلية والخصومة والمصلحة وغيرها مما ورد في القانون)،
ولم يسمح القانون لاي شخص ان يقيم دعوى شرعية تتعلق بالطلاق او الزواج او التفريق او النسب، من تلقاء نفسه مالم يكن شخصاً تصح خصومته وله مصلحة ويترتب على اقراره حكم وعلى وفق ما ورد في المادة (4) مرافعات التي جاء فيها (يشترط ان يكون المدعى عليه خصما يترتب على اقراره حكم بتقدير صدور اقرار منه وان يكون محكوما او ملزما بشيء على تقدير ثبوت الدعوى)، باستثناء بعض الأشخاص بما يملكون من صفة خاصة بهم يمنحها القانون او بقرار قضائي وعلى وفق ما ورد في الشق الثاني من المادة أعلاه التي جاء فيها (ومع ذلك تصح خصومة الولي والوصي والقيم بالنسبة لمال القاصر والمحجوز والغائب وخصومة المتولي بالنسبة لمال الوقف . وخصومة من اعتبره القانون خصما حتى في الاحوال التي لا ينفذ فيها اقراره) ولمن يرغب في المزيد من المعرفة فان كثير من الدراسات المتعلقة بالدعوى وكيفية اقامتها ومنها ما منشور في الانترنيت رسالة ماجستير للأستاذ نهاد وحيد جبار في رسالته الموسومة (النظام القانونيُّ لدعَاوى الحِل والحُرمة، دراسة مقارنة بالفقه الاسلامي) التي تمت مناقشتها في كلية القانون جامعة القادسية عام 2021، وما تم عرضه لا يتفق مع ما أشار اليه قرار الحكم محل البحث المتعلق بدعاوى الحسبة،
لكن لابد من التمييز بين الاخبار عن مخالفة البعض لنواميس المجتمع الثابتة والمتعلق منها بالحل والحرمة، فان وجود هذه المكنة تكون في القضاء الجزائي، حيث ان الفعل اذا كان يشكل جريمة فان من واجب كل من علم بوقوع الجريمة ان يخبر الجهات المختصة لاتخاذ الإجراءات القانونية، حتى لو لم يكن متضررا من تلك الجريمة، لكن لا يسمى مشتكياً وانما يسمى مخبراً ودوره ينتهي عند الاخبار فقط، وهذا ما اشارت اليه المادة (47/1) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل التي جاء فيها (لمن وقعت عليه جريمة ولكل من علم بوقوع جريمة تحرك الدعوى فيها بلا شكوى او علم بوقوع موت مشتبه به ان يخبر حاكم التحقيق او المحقق او الادعاء العام او احد مراكز الشرطة)، وهذا يختلف عن نطاق الدعوى المدنية التي تتصف بها دعاوى الحسبة وكذلك الدعوى الدستورية.
والدعوى الدستورية كما شاع التعريف الغلب عنها (هي كل دعوى متعلقة بمسألة من مسائل الدستور والتي ترفع أمام المحكمة الدستورية المختصة في الدولة، أما معناها الخاص فيتمحور حول دعوى دستورية القوانين ويراد بها مخاصمة القانون المخالف للدستور بدعوى أصلية يرفعها الطاعن أمام القضاء وبعد فحص القانون المطعون بدستوريته تحكم المحكمة إما الحكم بعدم الدستورية أو رد الدعوى)
وتتسم الدعوى الدستورية بانها لا تشبه الدعاوى في القضاء الاعتيادي، فهي تجمع بين أسلوب الدعوى الاعتيادية بمعنى ممكن إقامتها من مدعي ذي مصلحة على مدعى عليه، ومن الممكن أن تكون على شكل دفع أو طلب من جهة حددها القانون
كما تمتاز بانها دعوى عينية وشخصية لأن المدعي في هذه الدعوى قد يكون فرد أو هيئة من هيئات الدولة، والمدعى عليه هو القانون المطعون في دستوريته، وعن الطبيعة العينية لها ناجم عن كونهاتتعلق بخصومة تجاه القانون أو النص القانوني المطعون فيه ولا تمثل حقاً شخصياً مثل طلب التعويض أو غير ذلك فضلاً عن عدم توقف القاضي عند طلبات المدعي أو الطاعن وإنما له أن يبحث في أي أمر يتعلق بدستورية النص ويفتش عن الأسباب الأخرى التي تغافل عنها، بمعنى إن القاضي الدستوري يُقلِب القانون على كافة وجوهه حتى لو لم يذكرها المدعي وهذا الأمر محل جدل وخلاف فقهي لدى المختصين في القانون الدستوري لان بعضهم يقصر الأمر على إن الدعوى الدستورية هي دعوى عينية فقط ، وتتمثل بتشخيص المخالفات الدستوريةفي النصوص القانونية حتى لو لم تكن محل للطعن المقدم اليها الا انها وجدت نص اخر غير مطعون فيه يمثل خرقاً للدستور، وهذا اتجاه المحكمة الاتحادية العليا الذي استقر على التصدي من تلقاء نفسها للحكم بعدم دستورية النصوص التي تجد فيها مخالفة دستورية، حيث إنها تصدت إلى مادة في قانون بيع وإيجار أموال الدولة لم تكن محلاً للطعنبموجب قرارها العدد 213/اتحادية/2021 في 9/2/2022
وهذا يعني وبشكل واضح ان الدعوى الدستورية التي تتعلق بالطعن بعدم الدستورية المصلحة مفترضة في من يقيمها، لان الطعن بقانون يخالف الدستور هو من مصلحة الجميع، لأنه طلب تنقية المنظومة التشريعية من تلك القوانين التي تشكل مخالفة دستورية وانها بحكم الدستور تعد باطلة وعلى وفق ما ورد في المادة (13/ثانياً) من الدستور التي جاء فيها (لا يجوز سن قانون يتعارض مع هذا الدستور، ويُعد باطلاً كل نص يرد في دساتير الاقاليم أو اي نص قــانوني آخــر يتعارض معه)
وحيث ان القانون يسري على جميع العراقيين فان مصلحة كل عراقي مفترضة في وجود قانون سليم يتفق واحكام الدستور، وله ان يتصدى الى أي خرق من اجل حماية الحقوق الدستورية التي اقرت بموجب وثيقة الدستور، اما الانتقاء بين دعوى واخر، فانه امر نسبي يعود تقديره الى المحكمة، لكن يتبقى المصلحة مفترضة الوجود في كل طاعن بعدم دستورية أي قانون، وتكاد الدعوى الدستورية تكون اشمل من دعاوى الحسبة في حق من يقيمها المتاح للجميع بل لا توجد أي أوجه للمقارنة مطلقاً، لان دعاوى الحسبة وان كانت تمس الامن المجتمعي الا ان اثار الحكم الصادر فيها لا يتعدى أطرافها، اما الدعوى الدستورية فان اثرها يتعدى اطراف الخصومة الى جميع العراقيين، بحكم نطاق سريان القانون الذي يتصف بالعموم والتجرد،
ومن ثم فان الطاعن في التشريع الفرعي (النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا) محل بحث الدعوى (44/اتحادية/2025) يتوفر على المصلحة في اقامتها.
قاضٍ متقاعد