للوصول إلى فهم منهجي لمدلول «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»؛ نوضح ـــ ابتداءً ـــ المصطلحات والمفاهيم المكونة لهذا المصطلح المركب الجامع. فرغم قِدم النظام الاجتماعي الديني الشيعي وتجذره؛ إلّا أنّ حداثة المصطلح والمداخل العلمية المتعددة لدراسته؛ بحاجة إلى تفكيك وتوضيح المراد منه بدقة، وهو ما سيكشف أيضاً عن حقيقة وجود هذا النظام ومكوناته وأجهزته الفرعية، وما إذا تنطبق التعريفات الأكاديمية لمصطلح «النظام» على الكيانية الشيعية الحالية، وتطورها التاريخي، من جماعة دينية مهيكلة إلى منظومة، ثم إلى نظام يتمتع بكل مقومات النظام الاجتماعي الديني.
لقد توصلتُ إلى صياغة هذا المصطلح خلال بحثي عن مصطلح جامع يستوعب كل جوانب الكيانية الشيعية في بعديها النظري والعملي، زعماً مني بأنّ مصطلح «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» يقارب حقيقة هذه الكيانية الاجتماعية الدينية الثقافية السياسية التي تعبر عن واقع الشيعة الإمامية الاثني عشرية ومسارهم التاريخي والجغرافي، بوصفهم أكبر جماعة بشرية منظمة في العالم، يصل عددها إلى (400) مليون نسمة تقريباً(1)، وتنتمي إلى مدرسة إسلامية تتميز عن غيرها من المدارس الإسلامية المنتسبة إلى فقهاء مدرسة الخلفاء والصحابة في فهمها للدين الإسلامي وعقيدته وفروعه، وهو فهم يستند إلى أئمة آل البيت حصراً، وكذلك في قراءتها للتاريخ الإسلامي، وفي نفيها لشرعية الأنظمة السياسية التي لا تستمد شرعيتها من أصل الإمامة المنصوص عليها.
وكملاحظة استباقية؛ نوضح بأنّنا لا نقصد بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي مفهوم المرجعية الدينية الشيعية؛ بل نقصد به النظام الجامع الذي تقف المرجعية الدينية على رأسه؛ أي أنّ المرجعية تمثل حالة القيادة والرعاية لهذا النظام، ولا تتلخص فيه، في حين تشكل باقي المكونات ـ كما سيأتي ـ أجهزة هذا النظام وقواعده البشرية.
إنّ أهم مفهومين مكوِّنين لهذا المصطلح الجامع، هما: المذهب الشيعي والطائفة الشيعية، وهما مفهومان مختلفان في مداليلهما؛ فالمذهب الشيعي مرادف لمفهوم «التشيع»، والطائفة الشيعية مرادف لمعنى «الشيعة». وهناك فرق بين التشيع والشيعة؛ فالتشيع يدل على العقيدة الإسلامية الشيعية والفقه الإسلامي الشيعي، أو الإسلام من وجهة نظر مدرسة آل البيت، وهو تعبير عن نظرية دينية.
أمّا الشيعة فهم الكتلة البشرية المنتمية بالوراثة ـ غالباَ ـ إلى هذه النظرية، أي أنّهم مجتمع المذهب وليس المذهب نفسه. ويُطلق على مجتمع المذهب مصطلح الطائفة(2)، وهو تعبير عن الجماعة الإنسانية التي تنتمي إلى المذهب. وهذا يعني أن الفرد الشيعي هو إنسان ينتمي إلى مجتمع المذهب الشيعي، أو ما يصطلح عليه في المجتمعات التعددية «ابن الطائفة»، وليس بالضرورة أن يكون «ابن الطائفة» ملتزماً بشعائر المذهب وطقوسه؛ لكنه يعيش تلقائياً هموم مجتمع المذهب وقضاياه. وبالتالي؛ فموضوعة «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» لا تخص الشيعي المتدين وحسب؛ بل كل شيعي ينتمي إلى النسيج الاجتماعي الشيعي.
وليس مفهوم مجتمع الدين أو مجتمع المذهب حكراً على التشيع كمذهب والشيعة كمجتمع؛ بل ينطبق هذا التفكيك على أغلب الأديان والمذاهب في العالم؛ فهناك ـ مثلاً ـ التسنن والسنة، أي المذاهب السنية ومجتمع المذاهب السنية، والدين المسيحي والمجتمع المسيحي. إلّا أنّ ما يميز الشيعة ـ كمجتمع ـ عن غيرهم، هو تحوّلهم إلى جماعة مستقلة ـ غالباً ـ عن الدولة في مساراتها الدينية والاجتماعية والسياسية والمالية والحسبية؛ بفعل العوامل الثلاثة التالية التي لا تزال قائمة بقوة:
طبيعة تعاليم آل البيت وسنّتهم، والتي ينتج عنها لزاماً كيانية أو منظومة دينية اجتماعية مترابطة هيكلياً، ومتفاعلة في امتداداتها التاريخية والجغرافية، وشبه مستقلة عن النظام السياسي للدولة غير الشرعية.
فقدان الشيعة للسلطة السياسية والدول الراعية الحامية، إلّا في مقاطع استثنائية، وعيشهم في ظل أنظمة تعدّهم خارجين على مذهب الدولة وقانونها وسلطانها، وهو ما يجعلهم عرضة للتمييز والاضطهاد والقمع الطائفي السياسي المجتمعي.
الحفاظ على وجود المذهب ومجتمعه من الاستهداف الطائفي والاجتثاث والإبادة.
وكلما ارتفع منسوب العاملين الثاني والثالث؛ كلما أحست المجتمعات الشيعية بالخطر الوجودي، فراحت مندكّة أكثر في نظامها الديني الاجتماعي؛ الأمر الذي يعزز قوة هذا النظام ويطور هيكليته ويرص صفوفه باستمرار. أي أنّ عاملي القمع وفقدان الحماية السياسية؛ لا يضعِّفان النظام الاجتماعي الديني الشيعي، كما تتصور الأنظمة الطائفية؛ بل يقويانه ويدفعان الشيعة باتجاه مركزيته بشكل أكبر. بينما في أجواء الحرية المذهبية والمشاركة السياسية الحقيقية؛ ينسجم الشيعة بشكل تلقائي مع الدولة التي يعيشون فيها، ويرتبطون بها سياسياً؛ وإن كان نظامها سنياً، وتكون علاقتهم بنظامهم المذهبي علاقة دينية اجتماعية غالباً، دون أن يكون لها تبعات سياسية.
وإذا قارنّا بين واقع المجتمعات السنية والمجتمعات الشيعية على أساس العاملين الثاني والثالث؛ سنجد أنّ هناك ما يقرب من (57) نظاماً سنياً (3)، تمثل حماية طبيعية للمجتمعات السنية ومذاهبها؛ وإن كانت هذه الأنظمة علمانية، في الوقت الذي يُصنّف التشيع في ظل هذه الأنظمة خروجاً على مذهب الدولة، ويستحق من ينتمي إليه كل أنواع التمييز والإقصاء والتنكيل. بل الأنكى أنّ الدول الأربع التي يشكل فيها الشيعة الغالبية السكانية؛ ظلت تحكمها أنظمة طائفية أو إلحادية إقصائية إلى وقت قريب. وباستثناء دولة البحرين التي لا يزال نظامها سنياً طائفياً إقصائياً، ولا تزال الأغلبية السكانية من الشيعة فيها مهمّشة؛ فقد تغير واقع الدول الثلاث الأُخر (العراق ولبنان وآذربيجان) خلال العقود الثلاثة الأخيرة فيما بعد، إثر تحولات سياسية جذرية، ودخل الشيعة في مفاصل أنظمتها السياسية وباتوا مشاركين في قيادتها.
وقد أفرزت التحولات السياسية البنيوية في الأعوام 1979 في إيران، و1982 في لبنان، و1991 في آذربيجان، و2003 في العراق؛ ثلاثة أنظمة سياسية مختلطة طائفياً، هي العراق ولبنان وآذربيجان، ودولة شيعية إيديولوجية واحدة فقط، هي إيران، مقابل (55) دولة سنية. أي أنّ المذاهب السنية التي يبلغ عدد المنتمين إليها مليار وست مئة مليون نسمة؛ لديهم (55) دولة ترعاهم وتحميهم مذهبياً وشعائرياً، بمعدل دولة لكل (28) مليون نسمة، بينما الشيعة الذين يبلغ عددهم (400) مليون نسمة؛ لديهم دولة واحدة فقط. وليست المشكلة في المفارقات التي تفرزها هذه الإحصائيات؛ بل تكمن المفارقة الكبرى في أنّ الأنظمة السنية الـ (55) تستكثر على الشيعة الـ (400) مليون أن يكون لهم حتى دولة واحدة فقط، وأن يكونوا مشاركين في حكم ثلاث دول أُخر (العراق ولبنان وآذربيجان). وهو السبب الحقيقي الذي يقف وراء الاستهداف الطائفي الشرس الذي تتعرض له أنظمة الدول الأربع المذكورة؛ مهما تعددت التحليلات والمسوغات والمبررات؛ الأمر الذي لا يزال يضع الشيعة منذ 1400عام تقريباً وحتى الآن أمام خيار واحد فقط، هو الاندكاك بنظامهم الاجتماعي الديني؛ للحصول على حيز الأمان والحماية وحرية التعبير العقدي والشعائري والاجتماعي.
لقد نشأت قواعد النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر إمامة علي بن أبي طالب على مبدأ «الإمامة»، ثم أُعيد تأسيسه في بداية عصر الغيبة الصغرى للإمام المهدي على مبدأ «نيابة الإمام»، وتبلورت بالتدريج خلال القرون اللاحقة، ولا سيما في عصر زعامة الشيخ أبي جعفر الطوسي في النجف قبل (1000) عام تقريباً. وقد تطورت هيكلية النظام خلال القرن العشرين الميلادي؛ بفعل التحولات المحلية والإقليمية والدولية المتراكمة، وبفعل حالة النهوض الشامل الذي شهده الواقع الشيعي طوال النصف الثاني من القرن العشرين الماضي. ثم أخذت الطفرات النوعية الجذرية في واقع النظام وهيكليته تتوالى بعد العام 1979، وبات واقعاً متقدماً وناهضاً بقوة؛ إذ بات النظام نفسه، ولأول مرة في تاريخ الشيعة خلال عصر الغيبة، يشكّل السلطة الحاكمة في إيران بعد العام 1979، أي منذ 1200 عام تقريباً، كما بات محمياً من القوة الشيعية اللبنانية الصاعدة منذ السبعينات والثمانينات، ومن الحكم العراقي الجديد بعد العام 2003، ويتمدد بصورة ملموسة في كثير من البلدان، كأفغانستان وآذربيجان واليمن وسورية؛ برغم وجود بعض الانكسارات والإخفاقات؛ لكنها انكسارات عابرة وجزئية؛ ما يعني أنّ النظام الاجتماعي الديني الشيعي يعيش الآن قيامته وعصره الذهبي.
وفي المقابل؛ لا تزال الأنظمة السنية تعيش معادلات رد الفعل القائمة منذ مئات السنين، وهي أنظمة طائفية متعصبة في غالبيتها، وإن كانت علمانية ومعادية للدين، لكنها تعيش في عقلها الباطن وبفعل تحريك مشايخها ووعاظها ومؤسساتها وجماعاتها الدينية؛ هواجس التاريخ والتهديدات الوهمية التاريخية المذهبية. ولذلك؛ كلما ازداد منسوب نهوض النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ ازدادت التحديات والضغوطات التي تستهدف وجوده ومقومات صعوده. فقد ظل هذا النظام مهدداً طوال التاريخ، عدا عن أزمنة وجغرافيات محدودة، ولا سيما خلال حكم الدول الإدريسية والحمدانية والبويهية والفاطمية والصفوية. كما لا يزال النظام الاجتماعي الديني الشيعي مستهدفاً بقوة من السلطات والحكام الطائفيين والأجهزة التخريبية والمخابراتية للدول الغربية والإقليمية، وفي المقدمة بريطانيا وأمريكا والسعودية وإسرائيل.
وبعد مرور مئات السنين من الكفاح من أجل البقاء، ومن أجل النماء والتقدم؛ باتت هيكلية النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي استقر خلال العقود الثلاثة الأخيرة؛ تضم المكونات والأجزاء العشرة التالية:
1ـ المرجعية الدينية العليا أو ولاية الفقيه: وهي زعيمة النظام الاجتماعي الديني الشيعي وسلطته العليا ورأسه.
2ـ الحوزة العلمية: وهو الجهاز العلمي الديني التبليغي للنظام الديني الاجتماعي الشيعي.
3ـ وكلاء المرجعية ومعتمدوها ومكاتبها الجغرافية: وهم شبكة سفراء النظام الديني الاجتماعي الشيعي وممثلياتها الدينية الاجتماعية في جميع مناطق التواجد الشيعي.
4ـ مراقد أهل البيت والمزارات الشيعية: وهي محاور الاستقطاب العاطفي والوجداني الجامع للشيعة.
5ـ المساجد والحسينيات والمواكب والمؤسسات الثقافية والتعليمية: وتشکّل مجتمعة أو منفردة، الجهاز الثقافي والشعائري والطقوسي للنظام.
6ـ الحكومات والجماعات السياسية: وهو الجهاز التنفيذي السياسي للنظام.
7ـ المؤسسات والجماعات الأمنية والعسكرية: وهو جهاز حماية النظام.
8ـ المؤسسات والوقفيات الاقتصادية والمالية: وهو جهاز التمويل والدعم اللوجستي المالي للنظام، ويدخل في إطاره أصحاب رؤوس الأموال والتجار.
9ـ مقلدو المرجعية الدينية: وهي القاعدة الشعبية الإيديولوجية للنظام.
10ـ عموم الشيعة: وهي القاعدة الشعبية العامة التي تدخل ضمن دائرة تأثير المنظومة، ويدخل في إطارها غير المقلدين وغير المتدينين أيضاً (4). ولعل كثيراً من عناصر هذه القاعدة هم أكثر حماساً واندفاعاً باتجاه الدفاع عن النظام من المقلدين.
ومن مجموع هذه الأجزاء العشرة المترابطة المتكاملة؛ يتكون النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهو أشمل من مفهوم المرجعية، وأوسع من مفهوم مجتمع المذهب؛ أي أنّه ليس نظاماً دينياً محضاً، ولا نظاماً اجتماعياً محضاً، ولا نظاماً ثقافياً ولا نظاماً سياسياً؛ بل يجمع بين ظواهر النظم الأربعة، ويصهرها ليُحوِّلها إلى نظام واحد متفرد تاريخياً وجغرافياً. ومن خلال ذلك يتبين أنّ النظام الاجتماعي الديني الشيعي هو كيانية شاملة، تجمع في داخلها الظواهر التي تدرسها فروع علم الاجتماع، ولا سيما الاجتماع الديني والاجتماع السياسي والاجتماع الثقافي والاجتماع المعرفي.
وتؤكد ظواهر فروع علم الاجتماع هذه بمجملها أنّ النظام الديني الاجتماعي الشيعي هو نظام إنساني وهيكليته إنسانية؛ وإن اعتمد قاعدة دينية. وبالتالي، فهو قابل للنقد والتقويم والتطوير، وتحقيق مزيد من الإنجازات النوعية؛ بل قابل للتكيّف بكل سهولة مع ضغوطات الواقع السياسي والقانوني المحلي والدولي، وفي مقدمها ضغوطات القانون الدستوري والقانون الدولي، وما تفرزه من مفاهيم المواطنة والسيادة والولاء.
(أُنظر مخطط النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر غيبة الإمام المعصوم).
الإحالات
(1) لا توجد إحصاءات رسمية لعدد أتباع المذاهب الإسلامية في العالم، ولكن الأرقام التي نذكرها هنا تقريبية، ووفق معدل نسبة الشيعة في كل بلد، بالاستناد إلى عدد كبير من المصادر المحلية والعالمية.
(2) أُنظر: علي المؤمن، «من المذهبية إلى الطائفية»(مصدر سابق).
(3) يبلغ عدد الدول المسلمة العضو في دول منظمة التعاون الإسلامي (57) دولة كاملة العضوية، ودولة مراقبة، إضافة إلى دولتين مسلمتين غير عضوين في المنظمة، وبذلك يبلغ عدد البلدان ذات الأكثرية السكانية المسلمة (60) دولة، بينها (56) دولة تحكمها أنظمة سنية، وإن كانت بالاسم، ودولة واحدة حكومتها شيعية، وثلاث دول يشارك الشيعة في حكمها، هي: العراق ولبنان وآذربيجان.
(4) تشير الإحصاءات التقديرية إلى أن نسبة الشيعة البالغين المقلدين للمراجع هي بين 70 ـ 75% من مجموع الشيعة البالغين (المكلّفين، أي البالغين سن التكليف)، ما يعني أن المجتمعات الشيعية عموماً هي مجتمعات متدينة ومحافظة أكثر من غيرها من مجتمعات المذاهب الإسلامية الأُخر. مع الإشارة إلى أنّ غير المقلدين وغير المتدينين الشيعة، هم ـ غالباً ـ لصيقون بمجتمعاتهم الشيعية وهمومها وهواجسها، ولعل كثيراً منهم أكثر تعصباً إلى انتمائهم الاجتماعي والسياسي والثقافي الشيعي من كثير من المتدينين.