كان سبباً باستشهادهما أحوجنا وأحوج العراق في هذه الفترة, إلى شخصية كشهيد المحراب آية الله السيد محمد باقر الحكيم؛ حيث كان رضوان الله تعالى عليه, من النماذج القيادية التي قلما يجود الدهر بمثلها؛ حاول في مشروعه الديني والسياسي والإنساني, أن ينتشل الإنسان العراقي (فرداً وجماعة), من قيود الاستبداد, وظلمات الابتعاد عن ساحة القدس الإلهية, وحاول في أغلب مفاصل مشروعه, أن يحقق حلم الديانات السماوية, بخلق حالة التكامل والتوازن في شخصية الإنسان, لا باعتباره فردا ذاتيّاً يبحث عن ذاته فقط (كما يدعي أنصار الفردانية الغربية) , ولا باعتباره فردا غائباً مغيباً ضائعا في سياقات الجماعة, (كما يؤمن بذلك أنصار الجماعاتية في المدرسة الشرقية) !
ركز السيد الشهيد الحكيم (رض) على مفهوم الحرية, إذ كان يعتقد أنه مفتاح وصول الإنسان إلى مرحلة التكامل, وملأهُ لدوره في الاستخلاف الإلهي على الأرض؛ وانطلق من الفرد في مفهوم الحرية, إلى الجماعة الصالحة, إلى الأمة المؤمنة بالأمانة المناط بها حملها؛ لذا نراه (رض), قد جعل من تحرير إرادة الأمة, هدفاً استراتيجياً لمشروعه السياسي والديني, وذلك لكي تتمكن الأمة من التعبير عن هذه الإرادة الحرة الكاملة؛ وكان مؤمناً وببصيرة ثاقبة أن هذا التحرير في الإرادة, سيقود إلى تحرر الأمة من إرادة الهيمنة الأجنبية, والتسلط الخارجي, وأن تكون صناعة الرأي فيها من خلالها فقط, لا من خلال الإملاء عليها. لم يقتصر مفهوم الحرية في نظر شهيد المحراب, على تحرير إرادة الأمة من قيود الهيمنة الخارجية, بل كان يسعى في كل مشروعه, إلى تحرير الأمة من قيود السيطرة والهيمنة الداخلية, المتمثلة بسيطرة جهة واحدة, أو حزب واحد, أو شخص واحد, على مقدرات هذه الأمة, ومحاولة فرض الروح التسلطية الظالمة, من أجل توظيف خطاب الأمة لصالح هذه الجهة الواحدة. كان لمفهوم الحرية الذاتية, أو الفردية, مقياس مهم لقياس درجة نضوج الإرادة الحرة للأمة, في فكر شهيد المحراب, ولكنها لم تكن شبيهة بالحرية الفوضوية المنفلتة للإنسان, كما فهمها الفكر المنحرف, الذي أطلق للإنسان جانبه الحيواني, وقتل فيه ضمير الالتزام؛ بل كان مفهوم الحرية الفردية في فكر شهيد المحراب, أشبه بحالة علاج للنفس الإنسانية, التي إن تُرك لها العنان قادت نفسها والبشرية معها إلى المهالك, فكان يحاول جاهدا أن يربط مفهوم الحرية, بمفهوم عدم تسليم النفس البشرية لسلطان قوى الإفساد, التي تبعد الإنسان عن أية حالة تكامل في نفسه أو في مجتمعه.
لم يترك شهيد المحراب مفهوم الحرية, سائباً في نهاياته, غير محدد الملامح, بل حاول أن يجعل لهذا المفهوم, في كل مفصل من مفاصل مشروعه وجودا وحضوراً مؤثراً وفاعلاً , فربط مفهوم الحرية في ناحية منه بالجانب السياسي, وفي آخر بالجانب القانوني, وآخر بالجانب الديني, وغيره بالجانب الاجتماعي , فأكد على أن حدود الحرية, يجب ان تكون متوائمة مع فكرة الحفاظ على وشائج العلائق الاجتماعية, بحيث لا يتحول مفهوم الحرية في المجتمع, إلى حالة صراع واحتكار واصطدام, يقود إلى خلق حالة الانقسام بين أبنائه, والتفرقة, والصراع, والاقتتال؛ فإيمان المجتمع بمفهوم الحرية, جعله شهيد المحراب محكوما بضابطة الوحدة المجتمعية, التي كانت من ركائز مشروعه المهمة والمترابطة فيما بينها.
بمسح بسيط, لفروع الحرية في فكر الشهيد الحكيم, نجد أن مفهوم الحرية لديه, كان يريد منه خلق أمة نموذجية من ناحية, وضرب كل عوامل ومسببات استغلال الأمم وسلب حقوقها من ناحية أخرى, والوقوف بوجه المشاريع التخريبية التي تهدف إلى تفتيت الأمة , وخلق الفتن والصراعات من ناحية ثالثة. فكان لقاتليه أن يحققوا ما يريدون بقتله , والعراق بعد استشهاده كان (أنموذجاً) لما يريدون!