الاغترابُ _ في المَنظورِ الأدبيِّ والنَّسَقِ الفَلسفيِّ _ لَيْسَ انتقالًا مِنْ مَكانٍ إلى مَكانٍ ، أو الابتعادِ عَن الأحبابِ والأصدقاءِ.إنَّهُ شُعورُ الفَرْدِ بالعُزلةِ،والانفصالِ عَن ذَاتِهِ والعَناصرِ المُحيطة بِه ، أي إنَّ الإنسانَ يَنفصِل عَنْ جَوْهَرِه ، وَيَشْعُر بالغُربةِ وَهُوَ مَوجود بَين الناسِ ، وَيَعْجِز عَنْ إيجادِ مَعْنى حقيقيٍّ للأحداثِ اليومية والتفاصيلِ الحَياتية ، نَتيجة أسباب نَفْسِيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة .
والاغترابُ مُرتبطٌ بالمَسؤوليةِ والحُرِّيةِ للإنسانِ في اختيارِ قِيَمِهِ وأفعالِه ، مِمَّا قَدْ يُسبِّب لَهُ القَلَقَ والارتباكَ والاضطرابَ ، وهَذا يَعُودُ إلى عوامل كثيرة ، مِنْهَا : فِقْدَان القِيَم الرُّوحِيَّة ، والتَّغَيُّرات الاجتماعية السَّريعة ، وضُغوط الحَياة الحَديثة ، والابتعاد عَن الطبيعة .
وَتُعْتَبَر قَصَائدُ الشاعرةِ الأمريكية إميلي ديكنسون ( 1830 _ 1886 ) أفضلَ تَعبير عَن الاغترابِ ، حَيْثُ عَكَسَتْ شُعورَ المُثقفين الأمريكيين بالاغتراب بعد الحرب الأهلية ( 1861 _ 1865 ). عَاشتْ في عُزلة معَ أُخْتِها وأُمِّها ، حيث كانت تُفَضِّل كِتابةَ العَالَمِ عَنْ بُعْد ، فانسحبتْ مِنْهُ لِتَتأمله . وَوَجَدَتْ ذَاتَها في عُزلتها ، كَمَا أنَّها لَمْ تَتَزَوَّجْ . وقد قال أحدُ الشُّعراء الأمريكيين إنَّ العُزلة التي اختارتها إميلي لِنَفْسِها في بَيْتِ أبيها وفي غُرْفتها الخاصَّة، لَمْ تَكُنْ هُروبًا مِنَ الحَياة ، بَلْ إنَّ الأمر عَلى عَكْسِ ذلك، فقد كان اعتزالُها مُغَامَرَةً إلى قلب الحياة التي اختارتْ أن تَكْتشفها وتُروِّض مَجهولَها ، تلك الحياة الشاسعة الخَطِرة ، كثيرة الآلام ، ولكنِ الأصيلة .
وَالشاعر النمساوي راينر ريلكه ( 1875_ 1926 ) تُعْتَبَر حَيَاتُه مِثَالًا واضحًا عَلى الغُربةِ والاغترابِ والتَّهميشِ والإقصاءِ، في حِقْبَة اتَّسَمَتْ بِتَوَالي الأزماتِ الاقتصادية، وسَيطرةِ الرَّأسماليَّة، وَالتَّوَسُّعِ الاستعماريِّ . وَقَدْ جاءتْ أعمالُه الشِّعْرية والنثرية ورسائلُه تَعْبِيرًا عَنْ إحساسِه الحَياتيِّ العَميقِ بالاغتراب ، وانكفاءِ الفِكْرِ والحَياةِ الرُّوحِيَّة ، وانعزالِها عَن العَالَمِ الخارجيِّ ، مِمَّا وَلَّدَ حَالَةً مِنَ الحَسَاسِيَّةِ المُفْرِطَةِ التي أنتجتْ بِدَوْرِها انطوائيةً صَعْبَة .
والأديبُ التشيكي فرانز كافكا ( 1883 _ 1924 ) عَانَى مِنْ غُربته الرُّوحِيَّة واغترابِه العاطفيِّ ، وعُزلته الوِجْدَانِيَّة ، فَهُوَ يَشْعُر عَلى الدَّوَامِ أنَّه خَارج الزَّمانِ والمَكانِ ، ولا يَنْتمي إلى العَناصرِ المُحيطة بِه ، فَهُوَ تشيكي المَوْلِد ، يَهُودي الدِّيَانة ، يَكْتُب وَيَتَكَلَّم بالألمانية . وهذا الأمْرُ يَحْمِلُ في طَيَّاتِهِ بُذورَ العُزلةِ والغُربةِ والاغترابِ ، فالتشيكُ يَعْتبرونه ألمانيًّا ، والألمانُ يَعْتبرونه يَهُوديًّا . وَمَعَ أنَّه تشيكي المَوْلِد لا يَكْتُب باللغة التشيكية ، وَمَعَ أنَّه يَهُودي الدِّيَانة لا يَكْتُب باللغةِ العِبْرِيَّة . وَهَذه الغُربةُ المُتفاقِمة جَعَلَتْ مِنْهُ شخصًا خجولًا ومُعَذَّبًا ، وأدخلته في صِدَامٍ مَعَ وَالِدَيْه ، فصارتْ علاقاتُه الاجتماعية مُتوترة تمتاز بالقَلَقِ والخَوْفِ ، وَلَمْ تَكُنْ أزماتُه الاجتماعية إلا انعكاسًا لأزماته الرُّوحِيَّة .
والشاعرُ الإيطالي جوزيبي أونغاريتي ( 1888 الإسكندرية بِمِصْر _ 1970 مِيلانو بإيطاليا )، عَبَّرَ عَنْ ضِيقِه بالعَيش وَتَبَرُّمِه به ، واستحواذِ فِكرة المَوْتِ وَهَاجِسِهِ عَلى نَفْسِه ، فَبَحَثَ عَنْ وَطَنٍ حَقيقيٍّ ضائع ومُختبئ في ليل الزمان السحيق . كما بَحَثَ عَن ” البَرَاءَة الأُولَى ” . وتُظْهِر هذه الأحاسيسُ كُلُّها أنَّ جُرْحَ النَّفْيِ والاغترابِ الذي كانَ يَشْعُرُ بِهِ على الدَّوَامِ لَمْ يَنْدَمِلْ عِنْدَه . وَقَدْ زَادَ مِنْ حِدَّةِ اغترابِهِ عَنْ وَطَنِهِ آنذاكَ مُعارضته للفاشيَّة وأفكارِها المُتطرفة، فَشَدَّ الرِّحَالَ،وسافرَ إلى البرازيل،لِيُدَرِّسَ فِيها الأدبَ الإيطاليَّ الحديث خِلال الفَتْرَة ( 1937 _ 1942 ) .
والفَيلسوفُ الألمانيُّ كارل ماركس ( 1818_ 1883 ) صَاغَ مَفهومَ المَادِيَّةِ الجَدَلِيَّة انطلاقًا مِنْ مَفْهُومَي الجَدَلِيَّةِ عِند هِيغل ، والمَادِيَّةِ عِند فيورباخ ، وَوَظَّفَه كَي يُقَدِّمَ تَصَوُّرًا ماديًّا للتاريخ الإنسانيِّ ، وَشَرَحَ مَفهومَ الاغترابِ ( الاستلاب ) الاقتصاديِّ ، الذي يُؤَدِّي بِدَوْرِهِ إلى اغترابٍ اجتماعيٍّ وَسِيَاسِيٍّ للإنسانِ، وَفْقًا لأُطْرُوحته . يَرى ماركس أنَّ العَمَلَ في ظِلِّ الرَّأسماليَّةِ يُؤَدِّي إلى اغترابِ العَامِلِ عَنْ ذَاتِهِ وَعَمَلِهِ المُنْتَجِ وَزُمَلائِه ، وهَذا الاغترابُ يُؤَدِّي إلى استلابِ الإنسانِ ، وَفِقْدَانِ مُلْكِيَّةِ عَمَلِه، وبالتالي يَفْقِد إنْسَانِيَّتَه، وَيَخْسَر مَشَاعِرَه وأحاسيسَه وكِيَانَه وَشَخْصِيَّتَه وَهُوِيَّتَه.
والفَيلسوفُ الألمانيُّ مارتن هايدغر ( 1889 _ 1976 ) تَقُومُ فَلسفته على ثلاثة أركان : القَلَق ، الاغتراب ، المَوْت . وَيَبْرُزُ مَفهومُ الوُجودِ الوَهْمِيِّ ، حَيْثُ يُعَاني الإنسانُ مِنَ الاغترابِ ، فَيَتَقَمَّص الآخَرِين ، ولا يَجِدُ نَفْسَه ، وَهَذه المَرحلةُ تُمثِّل نَوْعًا مِنْ عَدَمِ الوُجود . أي إنَّ الإنسانَ يَغْفُلُ عَنْ حَقيقةِ وُجُودِه ، وَيَخْضَع لتأثيراتِ المُجتمعِ ، والعَاداتِ، والتَّقاليدِ، وإفرازاتِ النِّظَامِ الاستهلاكيِّ المَادِيِّ ، وَيَفْقِد ارتباطَه بالذاتِ والعَالَمِ، نَتيجة عَدَمِ وُجودِ مَعنى واضح للحَياةِ، أوْ لِعَدَمِ قُدْرته على تَحقيقِ الأصالةِ،وهَذا يَجْعَلُهُ يُعَاني مِنَ الغُربةِ الرُّوحِيَّةِ، والاغترابِ عَنْ ذَاتِهِ ومُحِيطِه . ولا بُدَّ مِنَ التركيز على الأسئلةِ الوُجوديةِ وَمَعْنَى الكَيْنُونة .
والفَيلسوفُ الألمانيُّ الأمريكيُّ إريك فروم ( 1900 _ 1980 ) يُعْتَبَر مِنْ أهَمِّ الفَلاسفةِ الذين تَعَرَّضوا لأزمةِ الإنسانِ المُعَاصِر، وَقَدْ سَاهَمَ في جَعْلِ مُصْطَلَحِ ” الاغتراب” مِنَ المُصْطَلَحَاتِ المَألوفةِ في القَرْنِ العِشْرين ، مِنْ خِلالِ أبحاثِه وَدِرَاسَاتِه . وَطَرَحَ مَسألةَ غُرْبَةِ الإنسانِ عَنْ نَفْسِهِ نَتيجة النَّزْعَةِ نَحْوَ الاستهلاكِ التي تَفْرِضُهَا المُجْتَمَعَاتُ الصِّنَاعِيَّة .