بين الشعوب الحية والميتة , هناك علامة فارقة متميزة واضحة ساطعة , عنوانها الرؤية والإقتراب , ونجد ذلك مسطورا على صفحات الصحف والمجلات ومواقع الإنترنيت.
فعندما نطالع ما يكتبه أبناء الشعوب الحية , نرى أن العقل يطوف في آفاقٍ علوية , وعندما نقرأ ما يكتبه أبناء الشعوب الميتة , ندرك أن العقل مفقود , والإنفعال هو السيد والعمود.
وتأخذك الدهشة , وأنت تقرأ عن مفردات ومفاهيم عفا عليها الزمن ويتحشد أمامك , ما تم نبشه من مدافن القرون وأجداث العصور فتتحير وتتألم , وتتساءل كيف لعقول كهذه أن تعرف المسير , وهل بإمكانها أن تنير؟
موضوعات تجاوزها العصر وتخلصت من إضطراب فهمها المجتمعات الإنسانية , ولا نزال “نعيد ونصقل بيها” , وكأن الواحد منا “إسطوانة مشروخة” , أو كأننا مازلنا نتجمع حول “صندوك الولايات” , في زمن “الآي بات” و “الآي فون” , التي أطلقها إنسان نصف جيناته عربية.
تذكرت “صندوك الولايات” , الذي كان من مقتنيات جدي , التي طمرها إنهيار بيته ذو الطابقين , وكنت شاهدا على ذلك الحطام الأليم.
وحَسبُ عقولنا مثل “صندوك الولايات” , لأن إسطواناته محدودة , وما فيها مكرر , ويتردد ببطئ , على إيقاع الحركة اليدوية التي تدور مقبض الإسطوانة وهي تلامس إبرته , فيطرب أهل البيت , ويرددون مع “صديقة الملاية” , (يا صياد السمج صد لي بنية….عشم إنت احضِري وآنا ابدويه) , و (يا عين موليتين يا عين موليه….جسر الحديد انكطع من دوس رجليه).
تعجبت مما أقرأ ومما إستهضه في ذاكرتي العتيقة , سيل المفردات والعبارات المتكررة , والتي تسيل كالطين من ثقب الأنين والويلات والتداعيات , المنسكبة من ناعور (يعتعته) ثور هرم أصابه الهزال من القسوة والتجويع , وقد تحول إلى إسطوانة دوّارة في معتقلات (رايح جاي) , وروتينية (يملي وي بدي) , التي ألغت من بصيرتنا أي خيار وإختيار , فتحولنا إلى دمى متحركة على مسارح الفكاهة المتاجرة بالدموع والدماء , وأصبحنا أصفارا على يسار رقم الكراسي , وهباءً منثورا تعبث فيه رياح المآسي , التي تعصف في فناجين مصيرنا السعيد!!
فدعونا نكتب عن موضوعات كتب البشر عنها على الطين والقصب البردي والحجر , وكانت منضدة في مكتبة (آشور بانيبال) , واتركونا نغوص بعيدا في أعماق الزمن , فلا مكان لنا في الوقت المعاصر , ومأوانا غوابرنا , وفي رحابها يحلو الضياع.
فحدثونا عن ذلك المكتوب في جوف الحفر!!
د-صادق السامرائي