إن الفارق بين أن تكون الشريعة الإسلامية هي ما شرعه الله للبشر عن طريق الوحي وبين أن تكون هي الفقه الذي لا خلاف في أنه منتج بشري لفارق خطير تنقلب به الموازين وتنهار في رحابه أسس الركائز التي ساند بها دعاة كل طرف من الاطراف مواقفهم. فالإشكالية لا تكمن في أن يكون الفقه الإسلامي قد بنى قواعده على نصوص الكتاب أو السنة وإنما الإشكالية في عملية البناء ذاتها على اعتبار إنها تبرعمت كعملية عقلية تحكمت في إنتاجيتها موجهات الوسط الممسك بالسلطة أو الوسط الذي لا يملك الفعل السياسي وبالتالي أخذ جانب المعارضة.
وبين التسلط ومعارضته سقطت جميع المقدسات والمقدس لا يصمد طويلا أمام الاطماع وخاصة في الصحراء المؤسسة اصلا على القوة والغلبة والقسوة كمبادئ للعيش في هذا النظام الاجتماعي المرتبط جدليا بالشخصية البدوية وهي من إنتاجه بالأساس وهي في الجوهر تركيبة هلامية تعكس تشوه التركيب الطبقي للمجتمع البدوي مع ما ينتج عنه من عدم تبلور التصنيف الطبقي اللازم لتكوين شخصية اجتماعية متوازنة وسليمة لكي تنتج نظاما سياسيا متوازن وسليم نقول ذلك لأننا ندرك بحق أن النظام السياسي هو انعكاس للواقع الاجتماعي.
تلخيص إشكالية الخلاف حول السنة.
منع التدوين مرّ بثلاث مراحل :
الاولى: فترة الشيخين.
الثانية: فترة من سار على نهجهما كعثمان ومعاوية.
الثالثة: فترة الحكم الاموي بعد معاوية وحتى عصر التدوين الحكومي .
المرحلة الاولى: جاءت بعد تسليم كون طمس الفضائل دخيلاً في المنع ، لعجزهما الفقهي وعدم إحاطتهما بجميع أحاديث النبي إذ قلنا بأنّ مقام الخلافة يستوجب العلم بما حكم به الرسول والخليفة لم يعرف جميع الاحكام الصادرة عنه، فواجه مشكلة عظيمة ، وهي مخالفة فتاواه لأقوال النبي مما يسبب تخطئة الصحابة إياه وهذا هو الذي دعاه ليمنع تدوين الحديث حسب التفصيل الذي قلناه .
المرحلة الثانية : جاءت لدعم موقف الشيخين ، إذ جاء عن عثمان ابن عفان و معاوية بن أبي سفيان أنهما نهيا عن التحديث عن رسول الله إلاّ بما عمل به على عهد الشيخين .
المرحلة الثالثة : هي مرحلة الملوك الذين حكموا بعد معاوية إلى عصر التدوين الحكومي حيث إن هؤلاء استغلّوا الافكار السائدة في العهد الاول والثاني لطمس فضائل الإمام علي ولترسيخ ما يبغون من أهـداف.
فتكون أسباب منع تدوين الحديث ، اختلفت بين فترة وأُخرى: إذ كان المنع في العصر الاسلامي الاول ـ على عهد الشيخين ـ لسدّ العجز الفقهي عند الخليفة وتحكيم ركائز حكمهم ودفع خصمهم .وأما في العهد الثاني فجاء لتحكيم ما سُنّ على عهد الشيخين وعدم الاخذ بغيرهما. وأما في العهد الاموي فكان بشكل مفضوح ، للمخالفة مع علي بن أبي طالب وأهل بيته. وبعد هذا ، فلا يمكن حصر سبب منع تدوين الحديث في المخالفة مع فضائل أهل البيت في جميع العصور بعد ما عرفت احتياجات العهود الثلاثة السابقة .
تقييم السنة عند الفريقين «الشيعة الامامية وأهل السنة والجماعة» إذ السنة النبوية قد مرت عند أهل السنة والجماعة بمراحل :
1 ـ مرحلة منع تدوين حديث النبي. 2 ـ مرحلة تشريع اجتهاد الصحابي أي: سيرة الشيخين أولاً ثمّ تطويرها إلى تحكيم اجتهادات جميع الصحابة.
3 ـ جمع موقوفات الصحابة مع مرفوعات الرسول في مدونات وذلك على عهد المروانيين الذين كان زمانهم أشدّ الازمنة عداوة لعلي وأولاده وهذا يعني أنّهم منعوا تدوين حديث الرسول ثمّ شرّعوا الرأي في دائرة الفراغ ثمّ اختلطت سنة الرسول بآراء واجتهادات الصحابة وبعد مائة عام دوّنوا تلك الاحاديث مع اجتهادات الصحابة وعلى ضوء المحفوظات لا المدوّنات وفي زمن غلبت فيه العصبية والقبلية فصارت هذه الاحاديث شريعة يأخذ بها كثير من المسلمين .
وأمّا الحديث عند الشيعة فلم يمرّ إلاّ بمرحلة واحدة وهي التدوين فقط والاخذ عن الرسول وما كتبه علي بن أبي طالب «من فم النبي ليد علي» فكان لجميع أهل البيت صحف وكتب. فأهل البيت لم يكونوا يفتون بالرأي بل يحكّمون النص وكتاب علي في كلماتهم وأقوالهم واستدلالاتهم على الخصم .ومن هنا صار عند المسلمين اتجاهان :
أحدهما : يعتبر الرأي والاخر: يستقي من النص لا غير .
وبما أنّ أهل البيت كانت عندهم صحف و مدونات (ومنها كتاب علي) وأنهم كانوا لا يفتون بالرأي والقياس فقد أمروا أصحابهم بتدوين ما قالوه فصارت عند أصحاب الائمة مدوّنات وأصول يستقون منها الاحكام وقد سميت هذه الاصول بـ (الاصول الاربعمائة) تمثلت بالكتب الاربعة الشيعية وهي الكافي للكليني ومن لا يحضره الفقيه للقمي والتهذيب والاستبصار للطوسي التي أُخذت عن الاصول الاربعمائة .
والاصول الاربعمائة هي مدوّنات لأقوال الائمة الذين كانوا لا يقولون بالرأي بل يتحدّثون بالنص عن الرسول طبق الصحف والمدوّنات عندهم منه.
وعليه فالاحاديث عند الشيعة الاماميّة هي-في نظرهم- أقرب إلى سنة الرسول لأنها لم تمرّ بمراحل متعدّدة متأثّرة بالظروف والحكومات بل مرّت بمرحلة واحدة وهي التدوين فقط ولم يحكّم فيها الاجتهاد والرأي .
وأمّا الاحاديث عند أهل السنّة والجماعة فقد مرّت بمراحل .
1 ـ المنع .
2 ـ تشريع الرأي والاجتهاد المخالف للنصوص في كثير من الاحيان .
3-جمع موقوفات الصحابة مع مرفوعات الرسول في مدونات في عصر يغلب عليه العصبية والقبلية .
4 ـ تعميم ذلك للأمصار وإجماع الامة عليها من بعد ذلك بمرور الازمان وتعاقب الحكومات.
وبهذا فإنّ البحث عن منع تدوين الحديث لم يكن بحثاً علمياً مجرداً بقدر ما هو بيان لآثار قد انعكست على واقع المسلمين إلى هذا اليوم وإنّ الاختلاف في الفقه بنظرنا يرجع إلى اخلاف آراء الصحابة وما شرّع جراء المنع حتّى في الاصول كان بسبب الروايات المستقاة عند الطرفين.(1). حينما نعرف تاريخ السنّة وملابساتها وما منيت به من تحريفات نعرف كل شيء وتتجلى لنا صورة الامر بوضوح.
أحاديث الشورى في السنة.
1- روى أن النبي قال:(إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه)(2) .
2- وقال:(المستشار مؤتمن) (3).
3- وقال:(من استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه)(4) .
4- وروى عنه أنه قال:(ما شقى قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأى ، وما خاب من استخار ولا ندم من استشار)(5).
5- وروى عنه أنه قال:(إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياكم سمحاءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياكم بخلائكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها)(6) .
6- وعنه قال:(البكر تستأمر والثيب تشاور)(7) .
هذه هي الاحاديث عن الشورى في السنة فيها الضعيف وفيها الغريب باعترافهم فهل يبقى في السنة متكأ لتأسيس الشورى باعتبارها مؤسسة حكم؟ كما خلا القرآن من هذا التأسيس خلت السنة من تأكيد اي نظرية حكم ودستور باستثناء نظرية النص التي قال بها الشيعة وسيأتي نقاشها لاحقا.
للحديث بقية.
………………………………………..
1-كتاب منع تدوين الحديث:397 ـ 465.
2-ابن ماجه -ك الأدب- ب المستشار مؤتمن ح رقم 3747 ج2 ص1233 بإسناد ضعيف .
3-ابن ماجه -ك الأدب- ح3745- 3746 ، وأحمد 5/274 عن ابن مسعود ، والدارمي ج2 ص219 . مجمع الزوائد ج8 ص99 . ورواية أبى مسعود عند ابن ماجه بإسناد صحيح.
4-مسند أحمد 2/321 ، 365 .
5-رواه الطبراني في الأوسط والصغير بإسناد ضعيف ، انظر : مجمع الزوائد،ج8 ص99.
6-الترمذى – ك الفتن ح2368 ج3 ص361 ، وقال : هذا حديث غريب.
7-أحمد 2/299 من حديث أبى هريرة .