22 ديسمبر، 2024 11:44 م

مـَحْضـرٌ كـَفـيفٌ

مـَحْضـرٌ كـَفـيفٌ

كعادتــه ! امتطى عـصاه البيضاء التي أهـدتها إياه ؛ إحـدى الطبيبات الأجنبيات ! بعدما اشتكى في إحدى الفيديوهات المنتشرة في ( اليوتيوب) من حاجته وضعـفه وفقره ؛ وإهمال وضعـه ووضع رفاقـه ؛ الذين ما وجـدوا عــملا ولا عَـصا بيضــاء ؛ يمتطونها لاتقاء شــر الازدحام وتهور الراجلين؛ وحماقة السائقين … مما يَتـخذ يوميا ركنا ؛ في إحدى زوايا الشارع العام ؛ قرب مركز البريد؛ يرتكن فيه ؛ ليبتاع المناشف الورقية ؛ وبعض حلويات الشكولاتة ؛ للمارة ؛ إنه مكان مكتظ بالمارة والمهـرولين نحو الإدارات والمنزعجين مـن خدماتها ؛ والمنفعلين من لعبة التسويف التي ما فتئت تمارسها في عهد العنكبوتيات ؛
يتذكر يوما؛ أن خدمات خيوط العنكبوت ؛ تعطلت ساعات ! فظل القوم يتقاطرون وينتظرون؛ وبعضهم ينتظر وينفعـل ؛ وبعضهم يتفكه والآخر يسب ويلعن؛ ويدعو ربه متى يأت الفرج ليؤدي هذا فاتورة الهاتف؛ وذاك ينال أجرة تقاعده؛ وسيدة تنتظر صـرف حوالة أرسلتها ابنتها من إحدى دول الخليج ؛ وشاب ينظر دفع ملف ؛ ولا يهمه الزحام ؛؛؛ لأنه يلعب في هاتفه ؟
– عجبا ؛ هل رأيــته يلعب بهاتفه ؟ سأله مرافقه الذي يبيع بدوره بعض المناديل النشافة ؛ وبعض أنواع السجائر ؛؛؛؛
– ألم تكنْ معي حينما سمِعْـته ؛ يُحرك البَصمات؛ ويرقص كالأبله على موسيقى دوار – جمايكا –
– أه ؛ تذكرت ذاك اليوم المشؤوم ؛ أيادي شريرة ، سـرقت مـنا الصندوق ومحتوياته ؛ بعدما اخترقت الفوضى والعراك بين تانك السافلتين ؛الحَقِيرتـان .
– بل سافهتين ؛ خَسِيستـان .
بدأ يضحكان ؛ويقهقهان؛ وكل واحد يضرب كـَفَّ الآخــر؛ كأنهما يلعبان؛ وبعض المارة يحملقون في تصرفاتهم ؛ ويستعجبون ! ولا أحـد منهم اقتنى علبة منشاف ! بعْد سويعات؛ التحق بهم أحد الزملاء ؛ يحمل صندوقا يشبه حقيبة على واجهته :[[ بسم الله الرحمان الرحيم؛ إخواني أخواتي الأعزاء ؛ ساهموا مع أشقائكم المكفوفين ؛ المعطلين . جزاكم الله خيرا؛ إنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين ]]
هَـمْهَم أحدهم ؛ بشكواه: فاستدرك أن المارة سيسمعونه ؛ لأنهم أصبحوا عَـديم الإنسانية ! والمؤازرة والإحسان ! ولم تَـعُدْ لهم هِـمَّة ولا نـخْـوة ! لقـد أمسى الأغلب الأعـم في بلادي مدلولا أمام مغريات مغشوشة ؛ يحاول أن يكون فرعون نفـسـه ؛ يلهَث وراء حضارة سخيفة ومزيفة. لا يفكر في محطات حياة مشتركة بين الأصدقاء، الجيران؛ الأقارب، واستثمار حياة مليئة بعـزة النفس وبالبراءة وحب التطلع الى الأخرين أو إلى مستقبل حالم ! تَـنهـد الأول تنهدة التعب والغضب؛ والثاني ظل يضحك ضحكات ساخرة وعميـقة لبؤس الزمان الذي يضحك . والثالث صرخ في وجه الفضاء، فاجتمع حـوله بعض الـمارة ؛ يتسألون ؛ ويستغربون ؟ : وصرخاته تزداد بالقول: ما أغباني؛ نسيت بأنني كفيف ؛ أعمى ؛ لا حق لي في التعبير والكلام أو الاحتجاج ؛ عليَّ أن أكون مثل ( أيوب) وأتذكره كلما فاض حَمْلي ؛ وحُـلمكم أيها المكفوفين ؛ واعلموا أن صبركم نقطة من بحر أيوب ؟ وآمنوا بحِكم وأمثال المجدوب : يا صاحبْ كن صَبار اصْبر عَلى ما جرى لك / ارقد على الشوك عَريان حتي يطلع نهارك.
هـذا ما علموننا إياه ؛ لنعيش الاستكانة بالصبر !
أليس فقـدان البَصر صبْر؟
أليس الخوف من الآتي صبر وسلوان؟
أليس الجوع الذي ينخرنا يوميا ؛ صبر على بلائه ؟
أليس العَطالة التي نعيشها صَبر في صـبْر؟
فهل أيوب كان مثلنا: يبحث عن وظيفة ؟ سكن؟ تطبيب؟ مقويات؟ مواصلات؟ ألبسة ؟…؟
في الحقيقة هو ليس مثلنا : هو أصيب بجُـدام ؛ وله من الأموال والبنين الكثير، قالوا لنا والله أعـلم : أبناؤه قد أماتهم الله عز وجل، وأمّا الأموال فقد مُحِقَت حتى لم يبق منها شيء ! ونحن المكفوفين أصِبنا بالإهمال؛ لا أموال لنا ولا بـنين ؛ أغلبيتنا لا بيت لـها ؛ لا قيمة لهـا؛ حتى جوانية أسرهم وبين أقرانهم ! إنها الحقيقة؛ التي تواجهنا يوميا ؛ حتى العصا البيضاء ،التي ستساعدنا على التنقل. لا نتوفر عليها ؛ فأي صبرٍهـذا ؟
ماذا اقترفنا في أزمنة قبل أزمنة الوجود؛ وهل نحن جوانية الوجود ككائنات في الموجود؟ هل كنا مشاغبين ؟ وصوليين؟ مجرمين؟ منافقين؟ جلادين؟ انتهازيين؟ اهتباليين؟ لصوصا؟ مبذرين؟ فـعُـمينا عقابا لشغبنا ؟ لوصوليتنا ؟ لإجرامنا ؟ لنفاقنا ؟ لغلظتنا؟ لإنتهازيتنا؟ لاهتباليتنا؟ للصوصيتنا؟ لتبذيرنا؟ شيء يحيرنا ؟ جنون يلامس عروق أدمغتنا؟ هل هناك حكمة في عَمانا؟ ممكن؛ ولكن العباد لا تؤزرنا؛ لا تشد بأيدينا؛ نموت يوميا في الشوارع والأزقة؛ بحثا عن عيش رغيد ؛ ما كنا له مدركين !!
هل كان المجدوب مثلنا كفيفا؛ منبوذا من مجتمع لا يعترف بنا؛ واعترف بأمثاله وأقواله التي كانت ضد زوجته التي ساح على إثرها في الفيافي بعيدا عنها؛ وبعيدا عن فضاء إباحية الجنس الذي كان في زمانه؛ لكن اسْتـُغِـلت تلك الأقوال: لأنها دواء ضد الانتفاضات ! بَلسم ضد الاحتجاجات ! بها استكان أجدادنا وانزاحوا للصبر كسكن بلا سقف؛ وسكينة بلا مصباح . وبالصبر تحولت أجسادهم لجسور وقناطر؛ لكي يَصـل مروجـو الصبر؛ ولـقَـد وصَلوا للقناطر المقنطرة من الذهب والفضة ؛ وها نحن نجتر خيبة أمالنا ؛ نستعطى ؛ كالمحتاجين؛ نعم محتاجين؛ حينما نبيع المناديل الناعمة، والمناشف الورقية ؛ ولا أحد يقتنيها منا: لماذا؟؛ الجميع يـنفـر مـنا: مـا السبب؟ ولا أحد يفكر بأن قوتنا انهـارت بالانتظار؛ والقـعود طيلة اليوم هكذا، لقـد أصيبت دواخلنا بالبلايا والأمراض الشديدة ؛ لم نعد نتوفر على حق التطبيب؛ فضاق الحال بـنا … تفرق الجمع من حوله هربا؛ وهو يزبد ويرغد كأنه في ساحة الوغى ؛ وما نوى لصراخ رفاقه يعلو ويعلو على هراوة السلطة ؛ وهو يجرونه ككبش الأضحية ؛ ومناديل ناعمة تتطاير؛ و مناشف ورقية في الدماء سائحة؛ سابحـة. فـأخلوا المكان على وجه الـخـفَّــةِ ؛ فرحلوهم للمخفر؛ على وجه السرعة ؛ فحرروا لهم محضرا كفيفا على وجه الاستعجال ؛ فيه ما فيه من التهم على وجه التعجيل: تجمع بدون ترخيص؛ وتشويه سمعة المجدوب؛ والتشكيك في صبر أيوب…..