23 ديسمبر، 2024 4:54 ص

في زمن جائحة كورونا هذا وأنا أشاهد الناس وهي تبحث عن كل شيء معقم من ماء ومأكل وما إلى ذلك، أستذكر أيام الماضي الذي كنا فيه نشرب الماء بطاسة واحدة مشتركة ودون أي تعقيم.

كنت طالباً ومن ثم عسكرياً في منطقة اليوسفية جنوب بغداد، كنا نصعد حافلات (الريم) من كراج كركوك إلى العاصمة بغداد حيث كراج النهضة وثم إلى كراج العلاوي حيث سيارات اليوسفية وبالعكس. سيارة (الريم) هذه تحمل على متنها أكثر من أربعين راكباً أغلبهم من الجنود إمّا الملتحقين إلى وحداتهم العسكرية في الجنوب العراقي أو من العائدين إلى عوائلهم بإجازة لمدة أسبوع.

سيارة الريم هذه لم تكن فيها أية وسيلة من وسائل الراحة للمسافرين. كانت فيها كراسي وسخة مشققة يظهر حديدها وأنت تجلس على الحديد الذي يهز الدماغ عندما ترتطم إطاراتها بأدنى وأصغر مطب على الطريق. ناهيك عن قيام أكثر من نصف الأربعون من الركاب بالتدخين داخل السيارة.

محرك سيارة الريم هذه كانت في المقدمة وبجانب السائق تماماً وصوت المحرك كان في الداخل أكثر ضجيجاً منه في الخارج. السائق يضع فوق هذا المحرك فلين أبيض اللون ملفوف في الغالب بكونية سمراء فوقها قدح بلاستيكي مجهول اللون بسبب الأوساخ التي تلفه أو تكون طاسة من الفافون الفضي المطعوج من الأطراف لكثرة الإستعمال والسقوط أرضاً. أحياناً كنا ننتظر لمدة ساعة داخل الريم حتى تقبط. من شدة الحر وتعذر التنفس داخل الريم، السؤال الأول الذي كان يسأله الركاب من السائق قبل الإنطلاق هو (عندك ماي بارد).

بعد الإنطلاق من الكراج يقف السائق على بعد مسافة عند بائعي الثلج المنتشرين على الطريق. يأخذ نص قالب ثلج بما عليه من تراكمات الأتربة المتطايرة من عجلات السيارات المارة في الشارع العام ويضعه في الفلين الملفوف بكونية سمراء للحفاظ على برودة الماء داخل الفلين، ومن ثم ننطلق إلى الجهة المقصودة ومعنا الماء البارد في جو بغدادي ملتهب للغاية.

يشربون من نفس الفلينة وبنفس الطاسة، حيث يقوم أحد الركاب ليشرب الماء الموضوع بجانب السائق حتى يطلب منه أحد الجالسين (رحم الله والديك بلكت طاسة ماي من يمك) يشرب هو ويرجع ما تبقى من شربه في الطاسة إلى الفلين ومن ثم يوصل الماء إلى أكثر من نصف الركاب الأربعون. أربعون راكباً كلها تشرب من نفس الطاسة ومن يد شخص كان يدخل نصف يده إلى فلين الماء ليخرج طاسة ماء لمن يشرب. وكنت ألاحظ أن أصابع الشخص الذي يقدم الماء إلى الركاب مغروسة تماماً في الماء الذي نشربه نحن. ولا نبالي أصلاً بذلك بل نشكره على هذه الخدمة الجليلة في تقديم الماء (رحم الله والديك).

وهكذا كان للماء طعماً فريداً والحصول عليه متعة كبيرة. لم نكن نمرض ولا نحس بسخونة ولا أي شيء. ولم نكن نخشى التلوث والجراثيم ولا الفايروسات كما يحدث الآن بعد شربنا للماء المعقم.