23 ديسمبر، 2024 12:22 ص

مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي (10)

مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي (10)

تأخذنا الحياة احيانا بتفاصيلها، فتنسينا عبق تلك اللحظات الجميلة التي مرت علينا، ثم تتناهى الى ذاكرتنا حينما نتوقف قليلا ونتفحص الأحداث والوجوه والأسماء، فنتذكر تلك الأيام، ونستعيد بريق ذلك الفصيل من المربيات والمربين، الذين (تحملونا) وتحملوا (شقاوتنا) كأطفال، فأخذوا بيدنا من صف لصف ومن مرحلة الى أخرى، حتى كبرنا وكبروا هم معنا. وكي ما نكون اوفياء لهم، ادعوكم لهذه الرحلة مع مجموعة طيبة منهم، اولئك الذين منحونا الكثير، ولم يطلبوا منّا أو لنا سوى التقدم والصعود في سـلّم الحياة نحو الأفضل، آمل ان تروق لكم
المربي نجيب انطوان حنا يلدو
من مواليد محافظة دهوك (محلة النصارى) في العام 1937، متزوج من السيدة حياة بطرس يتوما ، ولهم 3 بنات و 3 بنين و 15 حفيدا.

كما معظم العوائل، فقد اخذته العائلة للمدرسة وكانت اولى خطواته في،

– مدرسة كانت تابعة للكنيسة في مدينة (دهوك)، ثم اكملها في ،

– مدرسة (دهوك الأبتدائية) بعدها الى،

– (متوسطة دهوك المختلطة)، وبعد ان تخرج منها التحق ب،

– (دار المعلمين) في مدينة – بعقوبة – وتخرج منها عام 1958 بعد دراسة دامت 3 سنوات. اما اول تعيين له فكان،

1- (مدرسة زاويتة) في قرية زاويتة التابعة الى مدينة دهوك بعدها الى،

2- (مدرسة سيوش الأبتدائية) وهذه القرية كانت تقع قرب (سميّل) لمدة 3 سنوات، ثم نقل بعدها الى،

3- (مدرسة ابتدائية دهوك الثانية) والكائنة في المدينة بين الأعوام 1963-1967، انتقل بعدها الى،

4- (مدرسة العرفان) في مدينة تلكيف، وخدم هناك معلما لمادة الرياضيات بين الأعوام 1967-1987 حيث حصل على التقاعد في العام 1988. انتقل أثرها الى مدينة بغداد حيث كانت فرص العمل اكثر، اذ ان الراتب التقاعدي لم يكن كافيا لأعالة العائلة، فعمل في (الأعمال الحرة) حتى العام 1992، آثر بعدها مغادرة العراق والهجرة الى الولايات المتحدة، بالدرجة الأولى لخشيته على سلامة العائلة والأبناء من الحروب، وثانيا للألتحاق بباقي افراد العائلة الذي سكنوا مدينة ديترويت. بعد وصوله ، لم يرق له الجلوس في البيت، بل توجه للعمل من اجل اعانة العائلة وليكون مثلا طيبا لأبنائه في العمل وبناء القاعدة المادية الجيدة للأسرة، فقضى 10 سنوات عاملا في شركة الأطعمة السريعة (بك بوي) حتى استحق التقاعد، ولكن هذه المرة كان جادا في ذلك.

ساعدني الأهل في تحديد اختيار سلك التعليم (يقول المربي نجيب)، فمع تعلقي به الا انه كان مصدرا ثابتا للوظيفة. لقد ترك الكثيرون من المربين بصماتهم على نهجي اللاحق في التعليم، وأذكر منهم (المعلم يوسف خيدو) في مدرسة دهوك الأبتدائية الأولى، فقد كان انسانا طيبا، و (المعلم يونان) في المدرسة التابعة للكنيسة بدهوك ايضا. كنت طالبا مجدا ومجتهدا، ووجدت هذه المواصفات صداها لاحقا في دار المعلمين، فقد كنت (ثانيا) في نتيجة النجاح والتطبيق، على اني كنت (معفيا) بأستمرار في مادة التربية وعلم النفس، لابل ان هناك طرفة اود مشاركة القراء فيها، فقد كان عندنا مدرس لمادة التأريخ في معهد المعلمين وأسمه (استاذ فخري) وكان شديدا جدا في منح الدرجات، ويفتخر بالقول بأن اعلى درجة منحها للطلاب كانت (65)، وفي احدى الحصص نادى في الصف: من هو نجيب انطوان؟ تقدمت نحوه – مع شئ من الخوف والرهبة – فقال: صفقوا له! فقد حاز على درجة (92) وطوال حياتي لم امنح تلميذا هذه الدرجة.

في مرحلة التدريس نشأت علاقات وصداقات، اتمنى الرحمة لمن غادرونا والصحة لمن بقى منهم على قيد الحياة.وفي هذا المقام اتذكر صحبتي مع المرحوم عكَيد السندي المعلم في مدرسة دهوك الثانية، والمرحوم أسود بهورا، والأخ سليمان عبد الأحد في مدرسة تلكيف الثانية. لقد تشرفت بتدريس مادة الرياضيات لصفوف الخامس والسادس ابتدائي، ويزيدني فرحا نسبة النجاح العالية التي حققتها وخاصة لأمتحانات البكالوريا، كما وأزدانت سيرتي بالكثير من كتب الشكر التي حصلت عليها من الوزارة ومفتشيها نتيجة عملي ومثابرتي، لابل اني كنت دائم البحث عن اية طريقة او ابداع لتقريب مادة الرياضيات الى ذهن الطالب، عبر النشرات المدرسية، أوالمسابقات، أو وسائل الأيضاح المتاحة

آنذاك. ولم ابخل بوقتي في تعليم الطلبة المحتاجين (تعليم اضافي مجاني) لرفع مستواهم، او بالمشاركة في حملات محو الأمية الطوعية.

في حياتي الخاصة كانت لي هوايات كثيرة، في المقدمة منها ممارسة رياضتي السباحة والساحة والميدان، اضافة الى حبي الكبير للرقص الشعبي (الدبكة) مع ممارسة القراءات المختلفة السياسية والأدبية، ومتابعة آخر التطورات في العراق والعالم.

من امنياتي الشخصية ان احيى حياتي برفقة اولادي وهم متفوقين في حياتهم، وسعيدين مع عوائلهم، وهذا سيدخل السرور لقلبي ويجعلني أشعر بأن تضحياتي لهم وأسلوب تربيتي لم يذهب هدرا. اما للعراق الغالي: اتمنى ان اراه كما كان دوما، مزدهرا وناسه فرحين، وأن يرحل هذا الكابوس، وأصلي وأبتهل لله ان يحميهم وينقذهم من هذا الظلم والنار التي اتت عليهم.

******* ***** ****** ****** ******* ***** ***** *****

المدرس كَوركَيس طوبيا بطرس كَســّو

في العام 1943 ولد في (محلة شعيوتا) بمدينة تلكيف التابعة لمحافظة نينوى، متزوج من السيدة درّة زيا شـعو كَـُمـّه ولهم 6 بنات وولد واحد، وعندهم الآن 13 حفيدا.

حينما دخل المدرسة ، كانت المدرسة الوحيدة في بلدته هي:

– (مدرسة تلكيف الأبتدائية)، ومن المفارقات ان يكون مديرها آنذاك المرحوم الأستاذ (ميخائيل شينا) والذي صادف أن اقترن بشقيقتي، وبعد ان انهيتها (يقول) انتقلت الى،

– (متوسطة تلكيف للبنين) والتي كانت تشغل بناية (كنيسة مار يوسف)، ويصادف ان يكون مديرها (الأستاذ بهنام عفّاص)، وبعد ان انهيتها كان عليّ (مع مجموعة من الأصحاب) ان نؤجر سيارة بشكل يومي وطوال العام للذهاب الى مدينة الموصل بغية اكمال الدراسة الثانوية حيث بدأت في،

– (الأعدادية المركزية للبنين)، وقد اكملت فيها الصف الرابع فقط، اذ داهمتنا ظروف طارئة اضطرتني للسفر الى بغداد حتى اكملت الصف الخامس علمي في،

– (اعدادية النضال للبنين) والكائنة في منطقة السنك ببغداد. قُبلت بعدها في،

– معهد المدرسين العالي التابع لجامعة بغداد – قسم الرياضيات – اذ انني كنت ارغب بتحقيق حلم الطفولة في الدخول لعالم التدريس، وتحققت الخطوة الأولى بقبولي فيه، اما الخطوة الثانية فقد تكللت بنجاحي وتفوقي في التخرج للعام الدراسي 64-1965 حيث تمكنت من الحصول على المركز الثالث في دورتي لخريجي فرع الرياضيات لذلك العام، وبذلك نلت اللقب التشريفي (من العشرة الأوائل)، ولحسن الحظ فأن هذا الأمر قد ساعدني في اختيار المدرسة التي اريدها، استنادا الى أمر وزاري سابق، وفعلا تقدمت للتعيين في،

– (ثانوية تلكيف) نظرا لسكن عائلتي فيها وكنت انا الأبن الوحيد لها ، وصدر أمر تعيني يوم 12/10/1965، وألتحقت في اليوم التالي مباشرة، وبعد دخولي غرفة الأدارة، فوجئت بمديرها السيد (بهنام عفّاص) والذي كان مديري في ذات المتوسطة حيث رحب بي كثيرا، وسلمني منهاجا كان بأمس الحاجة لملئه في تلك الفترة (الحساب والكيماء للثاني متوسط/ الجبر والهندسة للثالث/ المثلثات للصف الرابع) وقمت بالمسؤلية بأحس صورة، وحصلت على اعلى النتائج في عامي الأول من التدريس، وربما تكون نسبة 95% في امتحان البكالوريا للصف الثالث شاهدا على كلامي.

حمل يومي الأول مفاجئتان جميلتان، الأولى كانت لقائي بأساتذة احبة من بلدتي (المرحومان كَوركَيس شمامي، وجورج أسمر) والأستاذ حبيب فاضل النجار اذ رحبوا بي كثيرا، والثانية كانت في تشكيلة الصفوف، كونها كانت مختلطة، وضمت الطالبات والطلاب، وهذا شيئ طيب لأنعدام وجود ثانوية للبنات آنذاك. بقيت في ثانوية تلكيف 8 سنوات، ثم طلبت نقلي الى بغداد، وكان تنسيبي الى،

– (متوسطة الفداء للبنين) في منطقة الحارثية، بغداد – الكرخ، وبعد عامان، طلبت نقلي الى الرصافة وكان في،

– (متوسطة دار السلام للبنين) في منطقة بغداد الجديدة، وخدمت فيها لمدة سنة واحدة، ثم نقلت الى ،

– (ثانوية المسعودي للبنين) في منطقة كمب سارة، والتي افتتحت للتخفيف من الضغط على متوسطة دار السلام، لكن هذه الأخيرة امتلأت بالطلاب ايضا، اذ وصل عددهم الى حوالي (1200) تلميذ، اما عدد صفوف مرحلة الثالث متوسط فقد بلغت حينها (20 صفا) وهذا عدد هائل بكل المقاييس! وحدث ذلك في العام 1975، وقد استمر عملي فيها حتى العام 1991، اذ اتممت خدمتي المطلوبة وتقدمت بطلب أحالتي للتقاعد بعد ان جمعت 26 عاما في سلك التدريس.

ومن الطرائف التي رافقت عملي في – ثانوية المسعودي – انه وفي العام 1980 قد عيّنت معاونا للمدير في انجاز المهام الأدارية والمكتبية وما يتعلق بالوزارة في الثانوية، علما ان ملاكنا التدريسي كان (40) مدرسا، اما مديرنا

الأستاذ العزيز والمربي المتميز (احمد طاهر حمدي) فكان دائما ما يردد:( لولا كَوركَيس….لغرق احمد!!). ومما افتخر به ايضا في (المسعودي) بأني قد انتبهت الى التركيبة الأثنية لطلبتها والتي وصلت فيها نسبة المسيحين الى حوالي70% فتقدمت بطلبا الى وزارة التربية لتنسيب مدرسا لمادة (الديانة المسيحية) وتم بذلك بعد استشارة الجهات الكنسية ونسّب لها القس المرحوم (باسل مروكي القس شمعون).

بعد تقاعدي بعام، قررت الأسرة مغادرة العراق والألتحاق بباقي العائلة التي سكن معظمها الولايات المتحدة وبالذات مدينة ديترويت، ومنذ ذلك الحين وأنا انشط في اداء الكثير من الأعمال الخيرية والأنسانية والثقافية، وربما تكون المهمة التي شـّرفني بها الأب (مانوئيل بوجي) في ادارة مدرسة تعليم (اللغة الآرامية – الكلدانية)عام 2005 ابرز تلك العطاءات، فقد ورثت هذه المدرسة الملحقة بكنيسة (ام الله) من استاذي (المرحوم رحيم شعيوتا) الذي اشرف عليها منذ تأسيسها عام 1996، وتخرج منها العشرات من الشمامسة والطلاب، والذين سيصبح بعضهم مدرسين فيها لاحقا. وقد وصل عدد منتسبيها الى حوالي (250) طالبا وطالبة موزعين على (7) مراحل دراسية وبملاك ممتاز، اذكر منهم بمحبة (استاذي المرحوم رحيم شعيوتا، فيليب القس ميخا، وديعة القس ميخا، روكسي جربوع، ماري يلدو،جمهورية القس كَوركَيس، نجومة دلّو، نبيل كرومي).

انا سعيد جدا بكلمات المحبة التي اسمعها بأستمرار من تلامذتي (حين اصادفهم في المناسبات التي تزدحم بها المدينة) والذين صار للكثير منهم مراكزا ثقافية ومهنية مرموقة اعتبرها ذخرا للعراق وللجالية، مثلما هي انجازا للطالب وعائلته، ويحز في نفسي كثيرا المآل الذي وصلت اليه البلاد ومدننا (المسيحية) في سهل نينوى، وأشعر بخيبة أمل كبيرة من ضياع (جهدنا وتعبنا) لسنين طوال في تربية جيل قادر على بناء البلد بصورة صحيحة! وآمل من الله ان يزيل هذه الغيوم السوداء عن سماء بلدي، وأن يعيش اهله وساكنيه جميعا بسلام، وأن تعود الألفة لعلاقاتهم بعد ان ينبذوا كل اشكال التفرقة التي شقت صفوفهم، ويتخلصوا من كل من تسبب بهذه الآلام لهذا الشعب الذي يستحق كل الخير.

******* ***** ****** ****** ******* ***** ***** *****

المربي عوني سلمان ناصر الخشـن

ولدت في مدينة (الديوانية) عام 1949، ومتزوج من السيدة آمال اسماعيل رابع، ولنا 3 بنات وولد واحد، مع 6 احفاد طرزوا حياتنا بالفرح والأمل.

مثل باقي الأولاد، شجعتنا عوائلنا على الدخول للمدارس والتعلم لضمان مستقبل افضل، فكانت الخطوة الأولى،

– مدرسة (الأبتدائية الهاشمية) في مركز الديوانية ثم انتقلت الى،

– مدرسة (ابتدائية الثقافة) والكائنة في مركز المدينة ايضا ثم الى،

– مدرسة (العزيزية الأبتدائية) والواقعة في قضاء الحمزة الشرقي، بعدها

– (متوسطة الديوانية) والواقعة في مركز المدينة وانهيتها عام 1964 متفوقا في موهبة (الرسم والأعمال اليدوية) آثرت بعدها وبدفع من العائلة ايضا على الألتحاق ب،

– (دار المعلمين الأبتدائية) في الديوانية والتي تخرجت منها عام 1967.

بعد هذه الرحلة مع المدارس ودار المعلمين، حان الآن وقت العمل والتوظيف، فكان التنسيب الأول عام 1968 الى،

1- (مدرسة جليحة) في قرية تحمل نفس الأسم، وتبعد عن مركز الديوانية حوالي 50 كم لمدة 3 سنوات ثم الى،

2- (مدرسة الأخلاص) في الديوانية ولمدة سنة واحدة، ثم جرى تسويقي للخدمة الألزامية ولمدة عامان ثم عينت في،

3- (مدرسة 17 تموز) في – قرية النورية – والواقعة بين الديوانية والشامية لمدة سنتان ثم الى،

4- (ثانوية الشامية) لمدة عام واحد كمدرس لمادة الرسم بعدها الى،

5- (مدرسة المجاهد العربي) في مركز الديوانية لمدة 3 سنوات بعدها الى،

6- (مدرسة الرسول) في مركز الديوانية ايضا ولمدة سنة واحدة ثم الى،

7- (مدرسة الديوانية الأبتدائية للبنين) ولمدة 8 سنوات، حتى العام 1988 بعدها نقلت الى،

8- (مدرسة الحجاج) في مركز مدينة كركوك ولمدة سنتان ثم الى ،

9- (مدرسة الفسطاط) والكائنة في مركز مدينة كركوك ايضا بعدها الى،

10- مدرسة في قضاء المقدادية التابعة لمحافظة ديالى وأخيرا الى،

11- (مدرسة 14 تموز) في – قرية الجزيرة- ولمدة سنة واحدة حتى حققت سني الخدمة المطلوبة وأحلت الى التقاعد عام 1994. وبسبب الأوضاع الأقتصادية الصعبة التي كانت سائدة في البلد، وكون الراتب التقاعدي كان محدودا امام استشراء الغلاء، فتقدمت للأعمال الحرة من اجل اعالة الأسرة، لكن بعدما ساءت الأوضاع الأمنية وصار ابناء (المكون المندائي المسالم) هدفا للعصابات والميليشيات في السرقة والأبتزاز، قررت العائلة مغادرة البلاد عام 2006

والبحث عن ملجاء يحفظ ويحمي كرامتنا وآدميتنا، وبعد انتظار متعب ومكلف دام 4 سنوات وصلنا أخيرا الى الولايات المتحدة، وأخترت العيش في ولاية (أريزونا) الآن، وأساعد في تأدية الواجبات البيتية ومساعدة الأسرة في احتياجاتها.

ليس لكوني حزين أو بسبب بعد الوطن عني حتى اتذكرهم، بل لأنهم مثل المعادن الثمينة والأحجار الكريمة، صعبي التكرار فأتذكرهم، اولئك هم من تركوا بصمتهم الجميلة في حياتي منذ صباي ولليوم: المربي (سيـد نور غربال – ابو رياض) كان أول من درسنا القرأة الخلدونية والرياضيات، فأحببته وأحببت طريقته، فأتخذتها اسلوبا ناجحا في سـني تدريسي اللاحقة ، المربي والمرشد (غازي جاسم السماوي ) معلمنا لمادة الرياضيات في (مدرسة الثقافة في الديوانية) فقد كان يظهر توددا كبيرا لي بسبب تميزي في درسه، ولا أنسى انه في أحد الأيام وضع في (النشرة الحائطية) المدرسية، مسألة حسابية على شكل حزورة مشفوعة بجائزة لمن يتمكن من حلها، ومن بين كل الطلاب تمكنا نحن، انا و (جبار حجي شاكر البغدادي – يعمل الآن طبيبا) من حلها، اما في المتوسطة، فقد كنا محظوظين ان يرعانا مدرس الرياضيات (فطحل) المعروف على صعيد كل العراق المدرس (ابراهيم مالك الشعلان) من شيوخ محافظة الديوانية، والذي كان لا يخفي محبته لي لتفوقي في درسه، والآخر الذي اكن له كل المحبة والأحترام كان مدرسـنا الأرمني لمادة اللغة الأنكليزية (كيورك داود) الذي كان له فضلا في تحبيب اللغة الأنكليزية بأسلوب جميل وسلس، (صدقوني، لغاية هذا اليوم وعندما الفظ بعض الكلمات، فهي تلك التي تعلمتها منه، وألفظها بطريقته، وأتذكره كلما استخدمتها!) اما في دار المعلمين فهناك اسمان لم تنطبق عليهما قوانين النسيان هما،الأستاذ (يوسف نمر ذياب) مديرنا والأديب المعروف، ومدرس اللغة الكردية المحبوب والودود (فخـري البشدري) والذي حصل على شهادة الحقوق ومارس المحاماة لاحقا، هؤلاء لا انسى شخصياتهم المتميزة ولا (فضلهم) على صقل شخصيتي لاحقا. اما للكادر الذي تقاسمنا الأيام والصفوف وهموم الدراسة والأوضاع والتلاميذ سوية لأكثر من 25 عاما، فبالحقيقة (كلهم احباب) وأفتقد عشرتهم وصداقاتهم وأتواصل مع الكثير منهم عبر شبكة الأنترنيت، لكن تبقى هناك غصـّة في قلبي عن احد المعلمين الأكراد (محمد نوري توفيق – ابو كرمانج) والذي كان احد ضحايا السياسة العنصرية للنظام البائد حينما ابعد الكثير منهم نحو المحافظات الجنوبية، لقد كان عضوا في اتحاد الأدباء الأكراد، وكان شخصية محترمة وموزونة، من اهالي السليمانية، وكنا في زمن ما نتواصل ونتراسل، لكن اخباره انقطعت بالمرة منذ الحرب العراقية آمل ان يكون بخير.

حينما اردت الأقتراب قليلا من عالم الأستاذ (عوني) الشخصي قال: انا انحدر من عائلة ملتزمة بالعادات ومتدينة، ولوالدتي الفضل الكبير علـى صقل شخصيتي، فقد علمتني ان اراجع نفسي كثيرا حتى لا يكون مردود عملي سلبيا، وكان كل توجه اهلنا نحو عمل الخير للناس، هكذا كانت تربيتنا، ولهذا عندما توجهت للتعليم شعرت بثقل الأمانة، فعملت بأخلاص وأندفاع شديدين، وما كنت انهي الموضوع الا بعدما اتأكد من ان (كل) التلاميذ قد استوعبوه. في احدى المدارس كان موقعها يقع في الجهة الثانية من الشارع وسكن التلاميذ، فكنت ارافقهم للشارع بعد نهاية الدوام حتى اتأكد من ان آخر تلميذ قد اجتاز الشارع بأمان، عند ذاك اغادر المكان، وفي سنة اخرى كان عليّ ان ارافق التلاميذ في امتحانات البكالوريا والتي جرت في المدينة بعيدا عن قريتهم، فكنت اقاسمهم النوم في احدى المدارس، وكنت اقوم ب (الطبخ) لهم بعد ان أشتري كل متطلبات الطعام، بسبب عدم وجود (مالية كافية)، فقد كانوا لي اخوة صغار ، اعتني بهم، مثلما اعتني بأولادي اليوم! ان مصداقيتي في التعليم اجد صداها دائما من خلال تلاميذي الذين التقيهم (بالمصادفة) وقد كــبروا وصار للكثير منهم شــأنا ما، فتسعدني كلمات الأطراء، وكلمة (مرحبة اســتاذ، عرفتني؟).

لقد ساعدت الحرف التي اشتهر بها ابناء طائفتي الكرام (المندائية) في المهن والأعمال الدقيقة وخاصة الصياغة، على منحي تميزا اضافيا في كل المدارس التي عملت بها، الا وهي – الأعمال اليدوية – التي كنت أشرف عليها وأرعاها اينما انتقلت للتدريس، ولي الفخر ان أقول بأن المدارس التي عملت بها كانت تنال الجوائز الأولى في مسابقات المدارس بالأعمال اليدوية على اشكالها وتنوعها ، لابل فقد تعدتها على مستوى العراق ككل، وفي المسابقات الدولية ايضا، وخاصة في (معرض شــانكر – الهند) حيث كان يحصد تلاميذي الجوائز للمراكز المتقدمة في المنافسات، وهذا ما يفسر تسابق العديد من الأدارات لضمي الى صفوف ملاكهم التدريسي. ان هذا التميز لم يكن بعيدا عن هواياتي الشخصية التي كنت امارسها كلما تسنت لي الفرصة او توفر لي الوقت، فقد كنت اشارك في معارض (نقابة المعلمين) في الرسم، خاصة (الكلاسيكي) اضافة للأعمال اليدوية مثل الضغط على المعادن أو الرسم عليها، وكانت فرحتي كبيرة حينما اجد من التلاميذ من يرغب بذلك، ومن كان ممكنا ان يكون له مستقبل باهر بها، ان الفضل الكبير كما قلت، يعود الى موروثنا المندائي في الأعمال الحرفية الدقيقة وخاصة في الصياغة.

لأن الوطن مسكون فينا اينما ذهبنا وحللنا، ففي كل مكان او مشاهدة، كنت وما زلت اتمنى لو يتمكن هذا الوطن الغالي ان يعبر على جروحه ويلحق بالدول الأخرى، اذ يعز على نفسي كثيرا ان اقارن بين المدارس في هذه البلاد (الولايات المتحدة) ومدارسنا المتهالكة والخالية من اية شروط انسانية او تربوية، وذات الشئ ، حينما اقف مشدوها اما اساليب التدريس الحديثة ووسائل الأيضاح المتاحة للتلاميذ ناهيك عن السوح الرياضية والمراسم والمختبرات والمسابح والمكتبات وغرف تعليم الموسيقى وصالات العروض المسرحية (في المدارس)، وأسأل نفسي حائرا: لماذا لا توجد مثلها في بلادي؟

قبل ايام حل علينا عيد (الفطر) وكعادتي السنوية، اذ اقوم بتحرير رسائل الكترونية لأصدقائي وزملائي التدريسيين متمنيا لهم عاما جديدا مليئا بالأفراح، لكني في هذه السنة ترددت كثيرا، فسماء بلادي لا تبدو انها مهيئة لأستقبال العيد ( عيد بأي حال عدت يا عيد!) لكني على يقين، بأن الفرح سينتصر يوما على الحزن، مثلما ستنتصر المدنية على التخلف، ومثلما سينتصر العلم على الجهل والأمية، فكتبت لهم وتمنيت لهم وللوطن الغالي بدعاء لله العلي القدير، ان يستجيب للناس التي ظلمت، والتي تركت بيوتها، وتركت ارثها وقبور موتاها، عسى ان يكون الوطن وأهله بخير!