23 ديسمبر، 2024 1:30 م

هذا المساء, اشعر بانزعاج شديد, وقد اطبقت على روحي كآبة حادة . حاولت الافلات منها بوسائل مختلفة…..
منذ تجربتي الثانية في هذه المدينة العربية, اصبحت اعاني من انفجارات شعورية تعصف بي كآبةً وحزنا , فلا تتركني الا رمادا .. لستُ ادري اذا ما كان الحب في الغربة طريقا للترويح عن النفس, ام تفاعلات كيميائية لتعويض نقص العاطفة عند المغترب !؟ كانت تجربة الحب الاولى لي مع امرأة متزوجة, لديها ثلاث اطفال. لم اكن أول الامر مندفعا نحوها بغريزة حب حقيقي, , بل كانت محاولة للتسلية والمتعة التي تعينني على كسر شوكة الغربة واحزانها, التي ادمت خاطري . مع الايام , ودون ان اعي, وجدت نفسي عاشقا متيما بهذه المرأة .. حاولت الافلات من بين فكي هذا العشق .. ولكن عبثا حاولت..  فقد سعت هي  بكل جهدها لديمومة هذا الحب وتعزيزه . اعطتني كل شيء.. نعم كل شيء .. لم تبخل “يوما”  عليّ بشيء . وهبتني كل ما في روحها من عطاء ومشاعر, وهبتني وقتها, جسدها … وضحت بسمعتها وحقوق زوجها من اجلي .. حتى وصل الحال بها ان تجري ورائي على مرأى من الناس . كتبت لي عشرات الرسائل.. وكانت كل رسالة تأتيني منها منها, هي شرارة من وقدِ الحب والعشق . قالت لي مرة في احدى رسائلها (عندما تحضر انتَ انسى ذاتي, انسى أهلي وأولادي , أنسى شرفي. لأنك مخلوق مقدس بعثه الرب في طريقي وأنني منذ عرفت الحياة كنت ابحث عن هذا المخلوق – الرجل – وقد وجدته فيك, واذا افلت مني الى السماء سوف اصنع اجنحة واتبعك في كل سموات الله السبع ..) لقد كتبت الكثيرمن الرسائل , مع انني كنت قريبا منها والتقيها باستمرار- ترجمت هذه المرأة كلماتها تلك بأفعال حقيقية كنت اتلمسها يوميا.. ولكن , ابدا لن انسى منها ذلك الموقف الذي قامت به ذات عصر احد الايام الشتوية.. اذ تركت طفلها البالغ من العمر سنة  وشهرين, على سطح الدار باكياً وتبعتني الى وسط البلد من اجل ان تلتقي بي فقط .. كانت ناسية تماما طفلها ذاك, ولانني رأيت هذه الحال, رفضت استمرار اللقاء وطلبت منها العودة الى طفلها الصغير, ولأنّها ام حقيقية غلبتها الامومة وعادت الى الدار, بعد وقت قصير امضته معي . كانت في كل لقاء معي تبدو ضمآنة لي, كضمأ قاطع الصحراء الى الماء في يوم صيفي حار. لم تكن ميالة لملذات الجسد وغرائزه بل كانت تفيض حنانا وحبا .. ولكنها في حضرتي تتوقد عندها كل الغرائز باقصى قدراتها . تركت حادثة تركها لطفلها الصغيرعلى سطح الدار اثرا عميقا في نفسي, وطرحت سؤلا ملحّاً  يقول : هل هذه المرأة عاشقة لي الى هذا الحد حقا? وهل هناك عاطفة اقوى من الامومة.. ؟  فتشت في خزين قراءاتي لعلم النفس, – عليّ اجد تجربة او نظرية تقول بأن هناك عاطفة اوعشقا يفوق غريزة الامومة – ولكني لم اجد.. حاولت البحث في كتب علم النفس مرة اخرى عن غايتي ولكني تعبت ولم اعثر على ما يبرر تفوق عشق هذه المرأة لي على امومتها لطفلها .. والحال هذه , حدث صراع طويل ومرير بين عقلي وقلبي .. كان العقل خصما شرسا للعواطف.. فعقلي يقول ان: هذه المرأة مريضة او شاذة وهذا أمر ينساب عكس مجرى الحياة  بينما في قلبي وجدتْ هذه المرأة مسرحا واسعا ادت عليه عرضا ملودراميا طويلا وقويا . وقد ملكت عليّ عواطفي لدرجة العبودية.. بقي هذا الصراع قائما والنصر للعواطف في كل معركة.. مرت سنة دون تغيير, تملّكتْ فيها المرأة كياني وذاتي بالكامل . اعطتني كل شيء لديها او يعنيها .
اعتدنا ان نلتقي كل يومين في احدى الحدائق العامة, وفي زاوية لا يصل اليها احد الا ما ندر حيث نتبادل القبل والحديث وتتشابك الايدي. ثم نذهب الى غرفتي , اذ ننسل خلسة دون مرآى الناس لنقضي حاجة الجسد الملتهب.. ولكن في الايام الاخيرة من هذه السنة شرعتْ بالتغيب عن حضور اللقاءات , معتذرة بأشياء لم تكن من قبل موجودة.. وقليلا قليلا تباعدت اللقاءات في مطلع السنة الثانية من عمر هذه العلاقة, حتى صاراللقاء كل نصف شهر او اكثر .. ومع ان الشك طبعا بي, وأنني من انصار “ديكارت” الا ان تعاطي  المرأة معي وبهذا الشكل طوال سنة قتلت “ديكارت” هذا بداخلي . اخيرا استيقظ “ديكارت”, ولكنه في نعاس مستمر , اذ كنت أطعمه حبة منوّم, لينام وارتاح من افكاره ..
لمّا ازل اذكر – ذات ظهيرة –  ثار بي الشوق اليها  والى المكان الذي كنّا نلتقي فيه.. دفعني شوقي الى زيارة ذلك المكان الذي كان يوقد شهوتي لجسدها , علّ هذه الزيارة تخفف من نار وحرقة الشوق الذي الهب روحي .. تسللت الى تلك الحديقة حالما متأملا مستشعرا دفء تلك اللحظات ورعشاتها وخلجاتها , وجدتُ المرأة جالسة في تلك الزاوية, نفس الزاوية , ونفس الجلسة ويدها بين يدي وفمها في فمي, وغيبوبة النشوة تملكتنا.. تحسست جسدي, فركت عيني, لأتأكد بأنني لست أحلم ..! لا , لم اكن احلم .. انتحيت جانبا ومن زاوية اخرى قريبة استطيع منها, تبين المشهد بوضوح اكبر شرعت بالمراقبة .. ولكنني صحوة على صعقة وجدانية مدوّية  حين تبين لي ان الذي حل مكاني هناك كان صديقي العزيز والوحيد الذي يعرف سر هذه العلاقة, عدت  الى الوراء وشرعت اراقب المشهد وأتابع المسرحية على نفس الخشبة التي عرفتي بطلا عليها طوال سنة تقريبا ..وفي فصلها الاخير, دخلت عشيقتي دار صديقي في حذر وتوجّس, تماما كما كانت تدخل داري , انتظرت على جمر دهشة المطعون غدرا , حتى خرجت من الدار , كانت منتشية كما كانت تخرج من عندي تماما . انتابني غضب شديد , صعب جدا ان اصفه, صارعته مستعينا بعقلي, واستطعت كتمانه بقوة صبري . وحين ابتعدت عن الدار اقتربت وطرقت الباب على صديقي وبعد انتظاروجيز , فتح الباب . كانت حمرة شفتيها مطبوعة على شفتيه ووجهه وكان فراشه يبوح بكل شيء.. فأدركت انه بدأ ببدايتي وسوف ينتهي بنهايتي.
ايقظت هذه التجربة في نفسي الوحش القديم الذي كان يقتات وينمو على صفع النساء ويستعذب اوجاعهن.. والحال هذه , عظُم حزني واشدت كآبتي . لم اجد بابا يفضي الى الفناء الواسع من الكون الا الطفولة, فهي الماء الذي يطهرني من دنس هذه المدينة ونسائها ويذهب عن نفسي كل ما علق بها من ألم وحزن وشك وهواجس فاضت وتفيض بها حياتي .. وفي اسرة فاضلة تقطن احدى ضواحي المدينة بدأت علاقتي النقية البرئة مع الاطفال, كنت اروي لهم القصص والالغاز.. وبعض الاغاني القديمة, واروي لهم الخرافات, عن الساحرت واللصوص والوحوش الخرافية والوهمية . توطّت العلاقة كثيرا حتى غدت ابويّة بكل معنى الابوة , استطعت من خلالها نيسان ذاك الجرح العميق الذي احدثته تلك المرأة .. كان الاطفال اربعة اولاد واعمارهم دون العاشرة وثلاث بنات الصغرى كان عمرها سنتين, اما الكبرى فكان عمرها ثلاثة عشر سنة.. لقد احببتهم حبا فاق حب ابويهما , توطت علاقتي بهذه الاسرة حتى اصبحتُ خلال ثلاث سنين فردا من العائلة.. ولأني “كما يقال” من برج الحوت فقد اندملت جروحي سريعا, لأن الاطفال كانوا البلسم والضماد لها . في احد الايام وفدت على هذه الاسرة شابةٌ في اواخر عقدها الثالث, وتكررت زياراتها لهم كثيرا مما دفعني للابتعاد عن الاسرة, تجنبا للاحراج, او لان شعوري الدفين  خلال التجربة السابقة استنهض وشرع يدفعني للابتعاد عن هذه الاسرة , خوفا من تكرار تلك التجربة القاسية.. لم يدعني الاطفال ان افر بنفسي, بعيدا عنهم , بل صاروا يلحّون عليّ للتعرف على تلك الشابة التي اخبروني بانها خالتهم الصغرى.. شرعوا يتناقلون الاحاديث والاخبار بيني وبينها .. كانت فتاة جميلة جدا , لم ينقصها شيء من الجمال والفتنة . ولكنَّ سراويلها الضيقة جدا “والتي عرتّها تماما” كانت تضايقني ربما غيرة مني عليها او على الاسرة او ربما غيرة محب من عيون الاخرين وهي ترشق جسد حبيبته بسهامها .. !! وجدت نفسي ذات يوم مرغما على الحديث معها لأمرين, الاول هو اكتشافي لعلاقة قائمة بين الطفلة الكبرى لهذه الاسرة – والتي بلغ عمرها الـ 15 عاما – واحد الشباب المنفلت, من صيادي الفتيات في الحارة , والامر الثاني هو لبسها لهذه السراويل الضيقة التي كثر حديث الجيران ” المحافظين” عنها.. في الامر الاول استطعت مع الخالة استرجاع الرسائل والصور التي كانت قد تبعثها الابنة الكبرى الى صديقها.. واستطعت واياها ايضا انهاء تلك العلاقة الغير متزنة . لكني فوجئت ان الخالة تعلن حبها لي.. وما صدمني في الامر انها تحمل نفس اسم المرأة التي خانتني فهجرتها, بل لها نفس الصفات الجسدية والنفسية. رفضت العرض  بقوة.. ولكنها ظلت تلحُّ عليَّ , وصارت تستجيب لكل نصائحي وتلبي كل الشروط التي امليها عليها وكأنها تعرف ما أريد.. وهكذا , ولا ادري كيف ! وجدت صاعقة الحب تضرب كل كياني مرّة اخرى حتى انها اشغلتي عن متابعة علاقتي باولائك الاطفال – الذين اعتقد انني لا استطع العيش دونهم , فهم معي في كل شيء. – ومع تسارع الايام والاحداث اتفقت مع الخالة الجميلة على الزواج, وكان في نفسي لوعة وشوق وهمٌّ كبير ..  لملت بقايا مشاعري  ورتَّقتُ كل ما تمزق من نسيج روحي.
أعددت العدة للزواج والاقامة الدائمة في هذه المدينة, ولكن موعد الزفاف تأخر بسبب خطبة الطفلة الكبرى لهذه الاسرة الى شاب طيب وخلوق . لم اكن راضيا عن هذه الفتاة, فقد كنت اعتقد انها مشروع علاقة قائم مع أي شاب تلتقي, وقد عَلقتْ مع الكثير من الشباب وكنت ادفعهم عنها غالبا, ولكن لا استطيع دفعها عنهم في الغالب ,وعندما خُطبت شعرت بالارتياح حيث كنت اعلل “لنفسي” تعدد علاقاتها مع الشباب هو بسبب بحثها الفطري عن زوج , واستجابة لنداء الانثى بداخلها….
تركت الاهتمام بالخالة وشرعت بمتابعة الاطفال ودروسهم والعمل على تجنيبهم بعض الاخطاء التي قد يقعون فيها, وتنمية قدراتهم المدرسية وترسيخ مفهوم الخير لديهم, شجعت الطفلة الكبرى المخطوبة على الاخلاص لخطيبها والاستعداد لحياة زوجية قادمة . عملت كل جهدي, ولكني كنت اراقب سلوك هذه الفتاة باستمرار, فتبينن لي ان فيها تناقضات كثيرة, اذ كانت لا تترك عين شاب ينظر اليها دون رد او اشارة او رسالة . وذات مرة وعند زيارة خطيبها لبيتهم كلف الاهلُ خطيبَ بنتهم بنقل الاثاث من غرفة الى اخرى تحضيرا ليوم ” الحناء” فكان المسكين مشغولا بكل جهده ووعيه بالعمل, بينما تسللت خطيبته الى خلف الدار. وكان هناك شاب ينتظرها , ودون كلام, احتضنها وغابا في قبلة طويلة.. تحسس خلالها كل اجزاء جسدها.. تركت مكاني الذي كنتُ راقبت من خلاله هذا المشهد ودخلت دارهم – بعد استئذان – وبعد ربع ساعة عادت الفتاة فرحة مرحة تساعد خطيبها في تغيير مكان الاثاث.. وهي تداعبه وتمزح معه بفرح  غامر وحب صادق.. عندها خرجت من الدار وتوجهت الى دار الخالة ” اقصد خطيبتي” بحثا عن تفسير لهذا التصرف من قبل ابنة اختها . فوجدت الجواب عند الخالة !! وهي تقف على باب دارها في ظل شجرة زيتزن , وقد غابت عن الوعي في قبلة حارة مع جارها وصديق اخيها. قبلة ,احرقت كل وجودي عن بعد……………..
 هذه الحادثة انهت رغبتي بالحياة , ولكن ولامانة الرواية اقول ان تلك الطفلة ” ابنة الاسرة التي احببت ”  صارت امرأة بحضوري حين فتح مشروع زواجها صديقُها الاخير, عند خروجها من صالون تزيين العرائس في ليلة الزفاف.
اما انا فقد قررت انهاء حياتي لأني امسيت اكره الحياة التي صرت اراها بحيرة افاعٍ, وقبل ان تعضّني احدى تلك الافاعى قررت ان اقطع وريدي ليسيل دمي قربانا لحياة قررت فراقها .. ليَقُل عني بعض الخبثاء الديوثين بانني متخلف, وليقل عني رجال الدين بأنني مجرم, قتل نفسه, وليقل عني الشجعان بأني جبان لم اتغلب على الحياة بمواجهتها , ليقل الجميع ما يشاؤوا فأنا اقول.. “البيضة الفاسدة لا تفقس عن صوص” ارجو ممن يجد هذه القصة ان لا يعلن عن اسمي حتى لا تلوثه افواه النساء العاهرات المملوءة بالخيانة وأفواه الرجال المغفلين المملوءة بالمرارة..
هذا المساء, اشعر بانزعاج شديد, وقد اطبقت على روحي كآبة حادة . حاولت الافلات منها بوسائل مختلفة.. بدأتُ بكتابة شيء من الخواطر, لكنني لم استطع افراغ ما في نفسي من حزن عميق, وجدت الكلمات عاجزات عن تفريغ هذا الكم الهائل من الحزن والوجع والمعاناة المهيمنة على روحي . وبما انني غريب عن هذه المدينة, لم اجد احدا اتبادل معه الحديث, علّ الحديث يفرَّج عني كربتي وينفّسها .. ليس لي سوى صديق وحيد, هو الاخر  كان اكثر حزنا مني واشدّ كآبة . مع كل هذا فضلت الذهاب اليه بحركة لا ارادية, اذ انعدمت عندي القدرة على التحكم باختياراتي..
 
وجدتْ هذه الأوراق مع جثتين لمغتربين في شقة مهجورة في ضواحي المدينة (ف) عام 1991