21 يونيو، 2025 10:17 ص

مغالطة التكلفة الغارقة.. سرّ تعثر المفاوضات في غزة

مغالطة التكلفة الغارقة.. سرّ تعثر المفاوضات في غزة

كان الفيلم سَيِّئاً.
يَقولُ “أرولف دوبلي” فهمسْتُ في أُذُن زوجتي: “أليس من الأجدى أن نعود إلى المنزل؟” فأجابت: “بالطبع لا؛ فنحن لم ندفع 30 يورو في تذاكر السينما لِتَضيع سُدى.” اعترضْتُ قائلاً: هذه ليست حُجّة. فالثلاثون يورو قد ضاعت بالفعل؛ وأنتِ بهذا ستسقطين ضحيةَ “مغالطة التكلفة الغارقة”.
أيُّ راءٍ مُنصفٍ للمشهد الدموي في غزة اليوم لابد أن يقول بأن من مصلحة الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي السرعة في إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار بين الطرفين اليوم اليوم وليس غداً.
ولكن إمعان النظر في المشهد لاستخلاص سر تردُّد الجانبين في السير قُدُماً نحو إنجاز صفقة الانسحاب من غزة مع تبادل كل الأسرى من الجانبين سيُظهِرُ لنا حتماً العقبة الكؤود المعترضة طريق المفاوضات حتى الآن، ألا وهي انشغال كل طرف بالتكلفة الباهظة المدفوعة حتى الآن ثمناً للثبات على مبدأ مواصلة الحرب حتى تمام النصر الذي يرى فيه كل طرف مُبَرِّراً أمام شعبه لكل تلك الخسائر في الأرواح والممتلكات.
لا شك أن الجانبين كليهما ليسا لديهما الشجاعة الكافية حتى الآن للسير في مفاوضات وقف القتال بعد كل تلك التكلفة الباهظة التي لم تكن في حسبان أيّ منهما عندما قرر الدخول لأوّل وهلة إلى ميدان القتال، ولكن المغالاة في تقدير تلك التكلفة وأهميتها بحيث تقف عقبة في طريقنا ونحن نفاضل بين خياري الحرب والسلام بشكل عام يمثل مغالطة فكرية لا تَخفى على حصيف، لأن ما مضى قد مضى، ومن الشجاعة ألا ننظر إلى الخلف ونحن نفكر في الحاضر من أجل المستقبل.
ونحن هنا لا نقصد أن نُسوّي في ذلك – نظرياً أو موضوعياً – بين الجاني الغاصب والمجنيّ عليه المغتصبة أرضه وحرية شعبه، لكنّما القاعدة صحيحة في كل الأحوال وهي أنه يجب ألا نقع في مغالطة النظر إلى الخلف ونحن نخطط للمستقبل.
في حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق في ثمانينيات القرن الماضي وبعد 8سنوات من القتال المرير ووقوع أكثرمن مليوني قتيل من الجانبين غير الخسائر المادية المقدّرة بمئات المليارات أعلن الرئيس العراقي صدام حسين قبوله القرارات السابق صدورها من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار والذهاب إلى الحلول السياسية، وبعدها وعلى مضَضٍ وقف آية الله الخميني المرشد العام للثورة الإيرانية قائلاً: “إنني وإذ أوافق على قرارات وقف القتال، فكأنّما أجد طعم السمّ في فمي!”.
وكان لكل طرف منهما مشروعه بعد وقف القتال ولسنا هنا بصدد تقييم كل مشروع منهما، ولكنّا نقول أن قرار كل منهما في وقف القتال – في حدّ ذاته – لم يكن يعني الخسارة لأيّ من الطرفين؛ إذ لم يكن ذلك القرار هو النهاية، ولكنه على كل حال كان خطوة شجاعة، على طريق حياة الشعوب المديد ولا أظن أن أحداً منهما قد دفع جزاء التكلفة الغارقة رغم فداحتها، بل إن الطرف الإيراني على سبيل المثال ما كان له كل هذا التطوير والتحديث في منظومة صواريخه بعيدة المدى لو لم تُوقَف الحرب مع العراق وتبدأ من بعدها مرحلة جديدة في إعادة بناء وترميم وتحديث جيشه حتى رأيناه اليوم يقف نِدّاً حقيقياً في وجه أمريكا نفسها التي أسماها مرشد الثورة “الشيطان الأكبر” ناهيك عن ربيبتها الشيطان الأصغر “إسرائيل”.
لا شك أن هناك تباين بين موقفَي الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني في غزة فيما يخص المرونة في اتخاذ قرار وقف القتال والانسحاب وتبادل أسرى الطرفين.
فعلى عكس الطرف الفلسطيني في غزة فإن الكيان الاسرائيل المعتدي المحتل عليه المُبادأة وإعلان الرغبة ومن ثم السير قُدماً نحو إنجاز اتفاق لوقف العمليات، فالمفاوض الاسرائيلي على كل حال لديه من المرونة في الاختيار بين البدائل “الحرب أو السلام” و”الانسحاب من الأرض أو مواصلة الاحتلال”.
أما المفاوض الفلسطيني فليس لديه من خيار سوى تحرير أراضيه المغتصبة واسترداد حرية شعبه المسلوبة.
إن على رئيس حكومة الكيان المحتل أن يعي أن ما دفعه من تكلفة باهظة ثمناً لمغامرته في الخروج على كل النواميس والأعراف الإنسانية في فلسطين لا يمكن أن يستردها، فأرواح جنوده الزاهقة لن تعود بمواصلة قتل النساء و الأطفال في غزة، كما لن يعود أسراه من غزة أحياء إذا ما ماطل في إيجاد الحلول وظل يتبع في حربه الوحشية سياسة الأرض المحروقة. ناهيك عن هيبته وإنسانيته التي لا يمكن ترميمها بمزيد من العنف والإرعاب.
وإنما عليه أن يعود إلى صوابه ويتعلم من دروس الماضي ولا يكرر في غزة الخطأ الذي وقعت فيه أميركا في فيتنام.
أمّا المفاوض الفلسطيني فليس عليه أن يَجلد ذاته عمّا تم دفعه من تكاليف على طريق تحرير الأرض كل الأرض سواء من قَبل طوفان الأقصى أومن بعده، فالأرض المغتصبة غالية ومقدسة، وتهون في سبيلها الدماء والأرواح، ومن هنا فإن المفاوض الفلسطيني وهو ذاهب إلى اتفاق لوقف العمليات عليه أن يتخفف من شعور الألم على ما سلف من تضحيات، وأن يركز على مصلحة الشعب والقضية معاً في الحاضر والمستقبل دون الالتفات إلى آلام وتضحيات الماضي.
وللمتنطعين المرجفين في الأمة أقول لهم: لا تَهرِفوا بما لا تَعرِفوا كفاكم تنظيراً ومعاتبة على اجتهاد المجتهدين وصولات وجولات المجاهدين.
إن المجاهدين في الأمة جميعهم حالهم أنهم أمام خيار واحد وهو تحرير الأرض من عدوّ متغطرس ومُتَشبث، ومعلوم أنه لا يَفِلّ الحديدَ إلا الحديد، وليس من صلاحية الساسة والمسئولين الفلسطينيين التفريط في حق مقاومة المحتل بكل الطرائق والسُبُل مهما دُفِعَ من تكلفة، وبُذِلَ من تضحيات.