اردت دائما ان اكون مميزة لذا حرصت كل الحرص على اداء المهام الموكلة اليَّ على احسن وجه واكرر التجارب المختلفة لإظهار اعمالي موسومة بالجودة والامتياز وكأنني في سباق دائم ولكن لم يكن معي من متسابق ولا من منافس انما افعل ذلك لأحرز كلمات الثناء والشكر فتمتلئ روحي بالرضا واشعر رغم حالتنا المتواضعة بالسعادة ولا اخفيكم سرا انني كنت اود دائما ان اكون عند حسن ظن والديَّ خاصة والدي اذ كان بالنسبة لي مثالا رائعا للحنان وملاذا امنا تأوي نفسي اليه حين يشتد بي الكرب من امور اجدني غير قادرة على تحملها وانا في تلك السن الصغيرة فكانت تبرر شعوري ذاك بعبارة تكررها دائما الا وهي:
(كل فتاة بأبيها معجبة)
اذ ذاك يبتسم ابي بابتسامة حنون ويربت على كتفي يمرر يده الحنون على رأسي وهو يردد قائلا:
سماح ابنة ابيها ودنياه …انها مميزة …انها سماح
تنظر اليه امي وكأنها تريد ان تنهي تماديه في الاستغراق بالثناء كي لا تثير غيرة اخوتي فهي تحرص دائما على ان تتجنب اثارة تلك الغيرة معللة ذلك بأن الغيرة تؤدي الى ما لا تحمد عواقبه وهم مازالوا صغار في السن .
الخامسة
انهض في الصباح مبكرة وبعد ان اغسل وجهي ويدي اتوجه الى المطبخ ولا تضنون انه مطبخ قائم بذاته اي اربع جدران وسقف وارضية ,كلا انه مجرد ركن من اركان فناء الدار وضع فيه طباخ صغير على طاولة مستطيلة صفت عليها بضع سلال ملئت صحونا واواني واقداح وعلى الجدار علقت قطعة من القماش خيطت على شكل حافظة لملاعق وسكاكين واما المساحة المتبقية من الجدار فقد ازدحمت بعدد من الصناديق التي تضم المواد اللازمة لإعداد الطعام .
اوقد النار تحت ابريق الشاي وفي جانب آخر اضع ابريق الحليب واحضر الصينية الكبيرة اصف عليها اقراص الخبز الذي يكون حارا وجديد اذ يأتي به اخي سامح من المخبز القريب من بيتنا وكذلك اضيف ما يتوفر من جبن عربي او بيض او قيمر حسب ما اجد ومن ثم ارفع الصينية على رأسي وامضي صاعدة بها الى الطابق العلوي حيث امي وابي والاولاد الاخرين ينتظرون وقد اتوقف في نصف طريق الصعود ربما وانا اعتلي الدرجة الرابعة او الخامسة حين تكون امي تهبط الدرجات العليا لتتناول مني تلك الصينية وهي تسمعني كلمات الحب والحنو وكأنه اعتذار دائم عن تلك الظروف التي جعلت مني اما صغيرة لعائلة كبيرة.
…………………..
كما يتكور العنكبوت في زاوية من زوايا المنزل ويخرج من فمه سائل صنعته خلاياه بحذق ومهارة ويصنع منها نسيجا يرسل منه خيطا دافعا بها غائلة الجوع ومستمدا منها قدرته على الحياة والبقاء…………………………
هكذا أوقظ ذكرياتي من داخل اعماق خلايا مخيلتي وفكري ومخي وربما الروح والقلب وادفع بها الى خارج اركان جسدي واوقع بأنامل الذكرى صفحات الزمن كأنني اعلَّمَّ عليها أنني قد راجعت ذلك وعليَّ أن اطرحها ليس في صناديق العقل الباطن اللاوعي بل الى حاوية النسيان واشعل النار في محتوياتها واشهد احتراقها وانظر رمادها وانا اتابع خطوط الدخان المنبعث منها بامتدادات مستقيمة الى آفاق الفضاء لتمضي دون عودة ولن تضيرني اذ ذاك عودتها بصورة اخرى فانا على علم وكما درست في المدرسة بأن المادة لا تفنى.
…………..
اجل انا الان اريد ان احرق كل ما ضمت ذاكرتي من أحداث واول تلك الاحداث طفولتي التي تحدثت في سطوري السابقة عن أحدى صورها ,لكن ليست تلك هي الصورة الوحيدة فأنا حين تقدمت بي سني الطفولة الى عتبة الصبا والشباب وفي عامي الرابع عشر بالتحديد حدث امر رهيب أصاب حالة الاسرة المادية بما يشبه الشلل فقد تعرضت اعمال ابي التي كانت هي عماد حياتنا المعيشية الى ازمة كبيرة من الكساد والخسارة تركته عاطلا عن العمل مكبلا بالديون شاحب الوجه من شدة الكرب وصارت حالته الصحية في تراجع مستمر ولم تجدي معه كلمات المواساة التي كانت توجه اليه سواء كانت من امي او الاصدقاء والمقربين فهي مجرد كلمات لا تشفي عليلا ولا تروي ظامئا ولا تكسو عريانا ولا تدفع دين مدين ,انهم فضلاء طيبون كرماء الكلمات لا الفعال اجل كرماء الاقوال لا الافعال وان شفعت بالنوايا الطيبة فهل تستطيع الكلمة ان تحطم قيد سجين او تدفع دين مدين لذا لم يجد ابي يد حنون تمتد اليه لتعينه او تخفف عنه وما زاد الطين بلة هو اجتراء أخواي الكبيران سامح وراجح بعد اشتداد عودهما الذي كان من المفترض ان يكون عونا للاب في محنته فإذا بهما يستغلان ذلك الكرب ليرفعا صوتهما وينويان تنفيذ ارادتهما رغما عن الوالد وارغامه على تنفيذ امر اقترحوه الا وهو رهن البيت الذي يؤوينا ليس من اجل تسديد الديون التي تكبل والدي بل من اجل استغلال ذلك المال الناتج عن رهن البيت في شراكة تجارية مع احد المتنفذين في الاسواق .
المني انهم لم يكترثا لما آل اليه الحال بل راحا يستعرضان عضلاتهما ويؤثرا تنفيذ ارادتهما غير آبهين بمعاناة اب كسدت تجارته وبار عمله وكبل بالديون.
راحوا يلحون على ابي بضرورة تنفيذ هذا الامر الذي اقترحوه مؤكدين ان لا مبرر للصبر وان السماء لن تمطر ذهبا على حد قولهم .
وانا في تلك السن شهدت عجز ابي وانتكاسته وشحوب وجهه الذي اصابه من شدة الهم والالم وكنت اود ان اجد وسيلة تمكنني من مد يد العون له فتارة اتمنى لو انني كنت املك قوة استطيع بها ان اصفع وجهيَّ اخوي بكل ما اوتيت من قوة واوقفهما عند حدهما وتارة اتمنى من اعماق نفسي أن أجد عملا يوفر لأسرتي عيشا كريما واستطيع من خلاله ان اضع في يد والدي مالا يمكنه من سداد ديونه وبهذا يستعيد عافيته وطمأنينة نفسه وكنت في كثير من الليالي افترش سجادة الصلاة واودي نوافل الصلاة في جو من السكون والظلام لأني لا اريد ان اعكر طيب رقاد الاخرين الذين يشاركوني الغرفة واتلو دعائي لله تعالى ان يهيئ لنا من امرنا فرجا ومخرجا واردد الآية الكريمة التي تقول ان مع العسر يسرى ان مع العسر يسرى.