عن طريق الكتابات والمنشورات الأدبية في العالم الافتراضي تعرفت على كاتب صحفي من إحدى دول العالم. بعد أن عرف أنني من مدينة كركوك الغنية بالنفط زاد اهتمامه بي وهو يسألني دائماً عن كركوك وعن طبيعة المعيشة فيها.
عرفته بالمدينة قدر المستطاع وأنا دائم التعريف بالمناطق والأزقة في كركوك، إلى جانب التأريخ العريق لكركوك مسبقاً. شرحت له الكثير عن قلعة كركوك وعن (اولو جامع) ومرقد النبي دانيال وتحدثت عن تاريخ النفط وكمياته في كركوك والكثير من الحياة الاجتماعية.
يبدو أن تعريفي بالمدينة كان وافياً شافياً حتى أحب المدينة مسبقاً وقرر هذا الصديق زيارة كركوك لمشاهدتها بأم عينه. قلت له أهلاً وسهلاً بك متى ما تفضلت، فنحن نحب إكرام الضيف. فرح كثيراً وسارع إلى حجز مقعده في إحدى الطائرات المتوجهة إلى العراق فوراً.
إجازة السوق الخاصة بي وسنوية سيارتي منتهية الصلاحية، يجب تجديدها قبل مجيئه. فلا بد أنه سيطلب التجوال في كركوك وخارجها. سارعت إلى مديرية المرور بكركوك وقمت بتجديد إجازة السوق وإستلام الإجازة الجديدة في اليوم نفسه. وفي اليوم الثاني أكملت تجديد سنوية سيارتي وأصبحت جاهزاً للقيادة في غضون يومين.
ابلغني هذا الصديق عن تاريخ وصوله وارسل لي صورة تذكرة الطائرة. ساعة الاقلاع وكذلك ساعة الوصول إلى مطار كركوك الدولي. التأريخ بداية شهر تشرين الاول من عام 2021 الساعة تقارب التاسعة مساءاً، حيث هبطت طائرته على أرض مطار كركوك وكنت أنا في صالة الإنتظار.
إستقبلته بحفاوة بالغة وحملت متاعه وتوجهنا إلى موقف السيارات في مطار كركوك الدولي. من هناك خرجنا في جولة ليست بالطويلة في شوارع كركوك المنيرة لشغفه الكبير لرؤية المدينة. الجولة مفيدة بغية تعريف الضيف على واقع المدينة العمرانية والمناظر الليلية. أعجب للغاية بالطرق العريضة والأضوية المتلألئة والانفاق الحديثة. أبدى إعجاباً شديداً بنفق تقاطع الحي الواسطي بالقرب من معارض السيارات والنفق الموجود أمام المعهد الفني مقابل بناية مبنى المحافظة الجديد. أخبرته أن هذه الأنفاق العظيمة التي شاهدها أنجزت خلال فترة قياسية لم تتجاوز العام الواحد وبخبرات وجهود محلية صرفة.
كان متعباً من السفر لذا أحببت أن آخذه إلى العشاء، ومن هناك إلى البيت ليرتاح الليلة ومن ثم نكمل المشوار يوم غد. إخترت له مطعماً جميلاً في شارع الكورنيش وسط كركوك وعلى ضفاف نهر خاصة صو التأريخي. جلسنا بين الأشجار حيث نسيم حدائق هذا المطعم الممزوج برائحة النباتات التي تحيط بالمكان والذي ينعش الروح. كان منبهراً من رؤية التطور الحاصل في المدينة وتمنى أن تكون مدينته الأوربية بهذا الجمال والروعة.
الحقيقة لم يكن يعرف شيئاً عن أكلاتنا مما إضطرني لأقترح عليه أكل السمك المشوي والمسكوف على الفحم. لا سيما وأن السمك هو نهري طبيعي ومن نهر الخاصة تحديداً وليس مثل ما عندهم، حيث يباع لهم أسماك الأحواض التي تتغذى على السماد الكيميائي. وافق على ذلك وأكلنا السمك وأبدى إعجابه الشديد بالفحم الطبيعي. جلسنا في حديقة هذا المطعم طويلاً نشرب الشاي لأنه أحب أن يجلس في هذا الجو الساحر شيئاً ويشاهد من بعيد المزيد من مناظر قلعة كركوك والتي تسر الناظرين ليلاً بأضويتها الخلابة وإنتشار الأشجار الخضراء حول القلعة بشكل هندسي منسق.
أبى المبيت في البيت، فأخذته إلى الفندق القريب من نهر الخاصة المتاخم لمصرف الرافدين فرع راس الجسر. حجزت له غرفة مطلة على نهر الخاصة مقابل قلعة كركوك مباشرة من ناحية الصوب الصغير. تركته لينام الليلة لأعود إليه الساعة التاسعة صباحاً. لم يكن مستيقظا بعد، أخبرني بأنه سهر حتى ساعات متأخرة من الليل يتأمل أضواء قلعة كركوك المنعكسة والمتراقصة على نهر الخاصة. كان قد أحب منظر الطيور المحلقة فوق نهر الخاصة والتي تعشعش في اغصان تلكم الأشجار المنتشرة حول القلعة.
الحقيقة أنني كنت فرحاً جداً وأحس بالكثير من الغرور وأنا أستمع إليه وهو يعرب عن إعجابه الشديد بمدينتي. تهيأنا للخروج لتكون الجولة صباحية هذه المرة ليشاهد كركوك بعين نهارية.
مؤشر البنزين لا يبشر بالخير. يبدو أن السيارة بحاجة إلى البنزين. دخلت محطة البنزين الحكومية قرب جامع النور الكبير وقمت بتعبئة السيارة 70 لتراً من البنزين. تعجب هذا الضيف من أنني أخذ كل هذه الكمية من البنزين في تعبئة واحدة. قال أن في بلاده لا يمكن لأحد أن يأخذ أكثر من 20 لتراً ليس إلاّ لغلاء أسعار المخروقات. قلت له يبدو أنك نسيت كونك في مدينة تطفو على النفط؟
ضحك وقال بالفعل فأنتم أهل النفط والغاز.. والبنزين عندكم كما الماء عندنا.. وهذه المرة ضحكت أنا..
كانت لنا وقفة في السوق الكبير، حيث قيصرية كركوك وعلوة خان التمر بالقرب منها. تجولنا في السوق ومن ثم صعدنا على قلعة كركوك. المباني الأثرية والخدمات الجليلة التي تقدمها دائرة الأثار لهذا الصرح التأريخي كانت محط دهشته للغاية. حيث الأبنية القديمة ومنارة بغداي خاتون ومقام النبي دانيال كلها من شواهد التاريخ العظيم لهذه المدينة. هذه المرة أعرب عن اعجابه بإعادة تأهيل هذه الأبنية التاريخية والبيوت القديمة بشكل مختلف حتى انني كنت اشاهد تلك الدهشة في نظرات عيناه قبل ان تنطق شفتاه بذلك. الحقيقة لم يكن يريد النزول من القلعة لو لا أن الجوع اضطرنا إلى ذلك لندخل أقرب مطعم.
أثناء جلسة الغذاء سألته عن انطباعاته بمدينة كركوك عامة. الجواب الأول كان هو إعجابه الشديد بالنظافة والمساحات الخضراء فيها. قال هنيئا لكم فلم تتركوا رصيفاً واحداً ولا جزرة وسطية إلاّ وقد زرعتم فيها أشجاراً و شتلات ورود. عزا تلك الروائح الجميلة المنبعثة ليلاً في شارع الكورنيش إلى هذه الأشجار الكبيرة والنباتات الكثيفة. وتمنى أن يشاهد نفس الشيء في بلده أيضاً. ثمن الجهود الحثيثة للبلدية لاهتمامها برفع القمامة كما ثمن عالياً العمل الجبار لمديرية الطرق والجسور في انشاء هذه الطرق الخالية من أية مطبات.
لم يكن له متسعاً من الوقت حتى اضطررت إلى أخذه إلى مطار كركوك الدولي مجدداً ليرجع إلى بلده وهو مبهور لما شاهده في مدينة كركوك من روائع.
هكذا ودعته على أمل اللقاء به مجدداً. اسفي ان الوقت لم يسعفنا كي اريه ضخامة محطة قطار كركوك السربع او أخذه في سفرة إلى بغداد والتي تستغرق ساعة واحدة فقط. او اطلعه على محطات الكهرباء التي تعمل علي الطاقة الذرية.
هكذا كان الوداع في مطار كركوك الدولي قبل أن تحلق به الطائرة إلى أوربا.