تعكس الأمثال الشعبية الكثير من الأحداث التاريخية التي تركت آثارها النفسية والإجتماعية في عموم الناس فكل مثل شعبي يحكي قصة معاناة وتجارب إنسانية خاضتها الشعوب على امتداد مسيرتها في رحاب الزمن وهنالك مثل شعبي عراقي يقول ( الفلوس تجلب العروس ) ومعنى هذا أن من يملك المال الوفير يستطيع أن يحقق لنفسه كل ما يشتهيه ويحلم به وإن كانت العروس قمة أحلام الشباب فكل حاجة لا يمكن تحقيقها إلا بوجود المال اللازم لها هذه النظرية الشعبية الجذور والإقتصادية المحتوى تصدق في كل شيء إلا في الكهرباء العراقية التي ألغت كل النظريات الإقتصادية وأفرغتها من محتواها العلمي وألقت برأس المال في زاوية العدم فأصبح المثل الشعبي المذكور آنفا يعطي نتائج عكسية عندها فأصبحت ( الفلوس تجلب النحوس ) فكلما زدناها إنفاقا زادتنا ظلاما وحرا لاهبا وبردا قارصا وإن كنا نشتهي البرد لأنه أرحم من لهيب الصيف الحارق ولا أدري لماذا تفقد الأموال الطائلة قوتها الإنتاجية وقيمتها الإعمارية بمجرد دخولها القفص الكهربائي فهل هذه الأموال لامستها أيد غير نظيفة فطارت بركتها وهل هنالك مثلث برمودا حكومي يبتلع أموال الكهرباء بمجرد مرورها عليه ؟
لقد أعادتنا أزمات الكهرباء المتعاقبة إلى عهود البساطة والطيبة حين كانت ليالينا الجميلة تسهر على أضواء الفوانيس النفطية التي تمنحنا ضوءا شاحبا نكمل عليه واجباتنا المدرسية والمنزلية ونستمتع بأجمل القصص من جداتنا وأمهاتنا حين لم يكن هنالك وجود حقيقي للكهرباء ولم يكن جهاز المذياع متوفرا في البيوت وإن وجد ففي بيوت الأغنياء ويعمل بالبطارية فكانت تلك القصص تدور حول الحيوانات الخرافية مثل السعلوة والطنطل وعبد الشط والنسر تلك الحيوانات التي كانت تنسج حولها حكايات مثيرة تدور كلها حول الصراع بين الخير والشر لكنها في النهاية تنتصر للخير ورموزه بعد أن تكون قد أرهقت أعصابنا وشدت أسماعنا للوصول إلى النهاية السعيدة للحكاية التي تمتد إلى وقت طويل من الليل ومع نهايتها تكون الفوانيس النفطية قد أصابها النعاس فيبدأ ضوءها بالأفول شيئا فشيئا معلنة نهاية سهرة سعيدة مع تلك الحكايات المليئة بالعبر والدروس القيمة كانت حياتنا تجري على منهج الحب والتسامح والأخوة بين الجيران وأبناء المحلة الواحدة قبل أن تغزونا الكهرباء فلماذا تريد الوزارة أن تعيدنا إلى تلك العهود بعد أن قطعنا مشوارا طويلا في التعايش مع المذياع والتلفاز وأجهزة التبريد وأخيرا الأنترنيت الذي اختصر العالم في شاشة صغيرة بين أيدينا ونشأت أجيال جديدة على واقع غير واقعنا القديم الذي عشناه والذي لا يمكن إعادته حيث البيوت الشرقية وأرضيتها المبلطة بالطابوق الفرشي والبادكير الذي يعمل على تبادل التيارات الهوائية بين الغرف وسطح الدار ثم السراديب التي تقضي فيها العوائل فترة القيلولة بعد الغداء لتنعم مساءا بالسطوح الواسعة التي تمرح فيها الأنسام العليلة ليلا إلى أواني الفخار المتنوعة التي نشرب منها الماء الزلال (قبل دخول الثلاجات) حيث الحب الفخاري الذي يمنحنا الماء البارد وتحته نضع الرقية لتتبرد بقطراته المترشحة منه والتنكة التي نعلقها في زاوية المحجر عند السطح ليلا هكذا كانت حياتنا مصممة قبل الإعتماد الكلي على الكهرباء الذي غير حتى طراز بيوتنا لتصبح كتلا من الحديد والإسمنت التي تتحول إلى جحيم لا يطاق عندما ينقطع عنها التيار الكهربائي في صيفنا العراقي اللاهب إن أزمة الكهرباء العراقية محيرة وتدعو إلى الكثير من التساؤل فإذا كانت الدولة بأموالها الطائلة غير قادرة على حلها فهل يصح أن نفكر مجرد تفكير بالدعوة إلى عقد قمة عربية كهربائية لحل هذه العقدة المستعصية مع قناعتنا الأكيدة بأن القمم العربية لم تحقق شيئا للعرب منذ قمة لاءات الخرطوم الثلاث التي تحولت بمرور الزمن إلى ثلاثة آلاف نعم مع كامل الممنونية .
وإذا غادرنا هذا الرأي لاستحالة تنفيذه فهنالك سبل أخرى يمكن اللجوء إليها لتجاوز هذه المحنة الكبيرة والخطيرة في حياتنا . إن الإعتماد على تصريحات المسؤولين سوف يزيدنا تراجعا وخسارة للمال والوقت فكل واحد يبشرنا قبل انتهاء الشتاء بأن الصيف القادم سيكون أفضل من الذي سبقه وستتحسن الكهرباء فيه وما أن يحل الصيف حتى تتحول بيوتنا إلى أفران لاهبة يختنق بها الإنسان وينسلخ جلده بحيث لم نعد نصدق التصريحات المتناقضة والتي تجانب الواقع اليومي بكل شيء بل لقد أصبحنا نخشى من تلك التصريحات والوعود وبتنا نأخذها على العكس ونعتبرها نذير شؤم بما تحمله من توقعات لا تمت إلى الحقيقة بصلة ويبدو أن هذه القضية قد أصبحت سياسة ثابتة لا تتغير بتعاقب القائمين عليها واخشى أن تكون هنالك يد أجنبية معادية تقف حائلا أمام حلها لأن ذلك يعني إنطلاقة كبرى للحياة العراقية في ميادين العمل والإنتاج وبناء الإقتصاد على أسس رصينة حيث تنهض الزراعة في أرض السواد وتعود المصانع العراقية المعطلة لتستوعب آلاف العاطلين وتتعاظم مسيرة العلم والعلماء في بناء الوطن أن الكهرباء هي عصب الحياة لأنها تعني النهوض الشامل للمجتمع ومن يحاربها فإنه يحارب المجتمع بأسره وقد لام البعض الدكتور حسين الشهرستاني حين صرح ذات مرة بأننا سنصدر الكهرباء إلى الدول المجاورة وإنني اعتقد بأن الدكتور الشهرستاني قد تناول الموضوع من زاوية علمية اقتصادية بحتة فحجم الأموال الطائلة التي أنفقت في مجال الكهرباء يكفي لكهربة دول بأكملها وليس العراق فحسب بل إن تلك الأموال كفيلة ببناء بلدان عصرية مجهزة بكافة الخدمات لو أنفقت بشكل سليم ولو كانت في أيد أمينة ونزيهة لولا تدخل السياسة في الموضوع تلك السياسة اللعينة التي يتحول فيها الجمل إلى أرنب والمليار إلى ألف دينار
. لقد أمضينا سنين عديدة ونحن نجتر الوعود وتخدرنا التصريحات حول وضع حجر الأساس لهذا المشروع الكهربائي وذاك دون أن يلوح في الأفق بصيص ضوء منبعث من هذه المشاريع بحيث لا يمكن الإنتظار طويلا وسط هذه الدوامة القاتلة والدوران في حلقات مفرغة أصابتنا باليأس وعدم الثقة بكل ما يقال فنحن نعيش أجواءا متناقضة تزدحم بالأضداد فلدينا وزارة اسمها وزارة البيئة ولدينا بيئة ملوثة بدخان المولدات الأهلية التي تنفث سمومها بين البيوت والأزقة بحيث تلغي هذه الوزارة لانتفاء الحاجة إليها وإذا كانت هذه المعضلة القاسية تحتاج إلى وساطات دولية لحلها فإنني أناشد الأخضر الإبراهيمي وياس خضر وسليمة خضير وخضير أبو العباس بوجوب مفاتحة السادة المسؤولين في المنطقة الخضراء وحثهم لإعطاء الضوء الأخضر للكفاءات العراقية في الداخل والخارج من أجل عقد مؤتمر وطني يناقش هذه القضية الكهربائية جذريا ويضع الحلول النهائية لها بعيدا عن المحاصصة البغيضة التي زرعها المحتل الآثم فليست هنالك كهرباء سنية ولا أسلاك شيعية ولا أعمدة كردية بل هنالك مصلحة عراقية واحدة ومستقبل عراقي واحد .
ة خالصة ابعث هذه المقالة مع شكري ومودتي